مقدمة
الخبرة القضائية من أهم الإجراءات المساعدة للقضاء والتي يأمر بها القاضي في ظروف خاصة وشروط معينة قصد إجراء تحقيق في مسائل فنية، لا يمكن للمحكمة أن تبث في النزاع المعروض عليها دون توضيح بعض المسائل أو النقط الفنية البحتة من الأشخاص ذوي المعارف الخاصة كي تستطيع الحكم فيها بارتياح .
وقد عرف بعض الفقهاء الخبرة القضائية بأنها "إجراء للتحقيق يعهد به القاضي إلى شخص مختص ينعت بالخبير ليقوم بمهمة محددة تتعلق بواقعة أو وقائع مادية يستلزم بحثها أو تقديرها أو على العموم إبداء رأي يتعلق بها علما أو فنا لا يتوفر في الشخص العادي ليقدم له بيانا أو رأيا فنيا لا يستطيع القاضي الوصول إليه وحده" .
ومن خلال هذا التعريف يمكن القول بأن الخبرة علم وفن وإجراء في آن واحد .
فهي علم يتطور مع التطور العلمي والتكنولوجي على جميع المستويات، مما يستوجب وجود مختصين يواكبون هذا التطور وعلى دراية كافية به؛ يمكن للقضاء الاستعانة بهم لاستجلاء اللبس والغموض المحيط بالمسائل التقنية والفنية موضوع الخبرة حتى يتسنى للقاضي البث انطلاقا مما هو ثابت علميا ليريح ضميره ويحقق العدالة المرجوة .
وهي فن قوامه المزج بين ما هو تقني وعلمي وما هو قانوني ومسطري، وهذا العمل ليس في استطاعة كل إنسان القيام به وإنما من الضروري أن يكون الخبير على درجة كبيرة من الإلمام بمتطلبات الميدانين تمكنه من المزج بين هذا وذاك، حتى يكون التقرير المطالب بإنجازه منسجما ومتكاملا ويعطي صورة حقيقية للقاضي حول النزاع المطروح أمامه .
وهي أيضا وبصفة أساسية إجراء من إجراءات التحقيق التي يأمر بها القاضي، وقد اهتم المشرع المغربي بالخبرة القضائية شأنه في ذلك شأن باقي التشريعات المعاصرة وأفرد لها نصوص خاصة من المادة 59 إلى المادة 66 من قانون المسطرة المدنية المعدلة بمقتضى قانون 00 – 85 والمواد من 194 إلى المادة 209من ق م ج ، كما توجد قواعد أخرى أساسية تنظمها في كثير من فروع القانون كالقانون المدني والتجاري أو قانون الجنسية والقانون الجنائي؛ ومن سمات الخبرة أنها وسيلة من وسائل الإثبات ذات طابع علمي يمكنها من احتلال مكانة مرموقة في ظل نظام الإثبات لا يمكن للمحكمة الاستغناء عنها بأي حال من الأحوال .
وتجدر الإشارة إلى أن تشعب الحياة وتطورها المستمران أديا إلى خلق اختصاصات متعددة ومتنوعة، وهذا ما يجعل مهمة القاضي صعبة مهما كان تكوينه العلمي أو المعرفي ورغم ثقافته الواسعة أن يلم كامل الإلمام بجميع المسائل ذات الطبيعة التقنية أو الفنية التي يتطلب حلها إجراء خبرة فنية كمسائل الطب والبيولوجيا والمحاسبة والطبوغرافيا والهندسة المعمارية …
ولهذا فالمشرع المغربي خول للقاضي السلطة التقديرية للأمر بإجراء خبرة وتعيين الخبير الذي يقوم بهذه المهمة -إما تلقائيا أو باقتراح أطراف النزاع واتفاقهم- للاستعانة به من أجل استكمال معلوماته وتسليط الضوء على ما غمض من واقع النزاع المعروض عليه، واعتبارا لذلك فإنه لا يمكن اللجوء إلى الأمر تمهيديا بإجراء خبرة لتجنب الجهد الضروري أو القيام بالدراسة اللازمة لتحليل عميق لعناصر النزاع الذي عليه الفصل فيه، بمعنى آخر أنه لا يجوز أن تتحول الخبرة إلى وسيلة للقاضي يلقي بها مهمته على غيره، وإلا كان ذلك تفويضا منه لسلطته القضائية. وقد جاء في قرار صادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 30 ماي 1982 بهذا الخصوص : "… إن مهمة الخبير الذي تعينه المحكمة تنحصر في جلاء أمر تقني يرى القاضي الإطلاع عليه ضروريا للفصل في النزاع المعروض عليه، أما الإجراءات التي تتعلق بالقانون كمعرفة الأرض المتنازع عليها، هل هي من الأملاك الخاصة أو من أملاك الدولة أو الجماعات، وهل المدعوون يتصرفون في الأرض عن طريق المنفعة والاستغلال فقط أو عن طريق التملك، فهذه كلها إجراءات قانونية من صميم أعمال القاضي الذي لا يجوز أن يتنازل عنها للغير أو يفوض النظر فيها إليه …"
والخبرة إجراء للتحقيق يتميز عن باقي إجراءات التحقيق العادية الأخرى كالأبحاث واليمين وتحقيق الخطوط والزور الفرعي، لكونها لا ترتبط بقواعد الإثبات الموضوعية المنصوص عليها في قانون الإلتزامات والعقود المتمثلة في الإقرار والكتابة واليمين وشهادة الشهود والقرينة. وما دامت الخبرة إجراء للتحقيق فهي تعد مرحلة من أهم مراحل الدعوى، فأطراف النزاع خلال هذه المرحلة يقومون بطرح ادعاءاتهم ومزاعمهم للمناقشة مع السعي لإثبات صحتها ووجاهتها، كما يقوم القاضي بجمع كافة العناصر والأدلة والبراهين التي يستعين بها من أجل الفصل في النزاع المعروض عليه .
ونشير إلى أن موضوع الخبرة القضائية يحضى بأهمية بالغة في العمل القضائي باعتباره أكثر الإجراءات تطبيقا، فيلاحظ مثلا أن دعاوي التعويض المرفوعة إلى القضاء غالبا ما تكون مرتبطة بإجراء خبرة، كذلك الشأن بالنسبة للقضايا العقارية على اختلاف أنواعها؛ كما أن سوء تطبيق هذا الإجراء من طرف القاضي يترتب عنه إضرار بحقوق الدفاع وتطويل أمد النزاع .
والخبرة مهنة حرة تشارك في أداء خدمة عمومية وتنوير القضاء، وقد اعتنى المشرع المغربي بهذه المهنة ونظمها بمقتضى القانون رقم 00 – 45 المتعلق بالخبراء القضائيين، والذي عرف الخبير في مادته الثانية بأنه "المختص الذي يتولى بتكليف من المحكمة التحقيق في نقط تقنية وفنية …" كما حدد شروط الترشيح والتقييد في جدول الخبراء المحلي أو الوطني، نص على حقوق وواجبات الخبراء ومسألة التجريح والتأديب.
وبالرغم من الأهمية البالغة التي يكتسيها موضوع الخبرة القضائية سواء في المجال المدني أو الجنائي والضرورة الملحة له والفرص الفسيحة التي يطرحها من أجل تبادل الرؤى والنقاش، فإن تيار مهم من الفقه أثار مجموعة من الشكوك حوله، بحيث أن إجراءات الخبرة المعقدة تساهم بشكل ملحوظ في البطء في تصريف قضايا المواطنين والزيادة في نفقات المتقاضين، فالكثير من القضايا يتم تأجيلها لأشهر وربما لسنوات لحين حصول المحكمة على تقرير الخبير والذي قد لا تعتمده في آخر المطاف في بعض الأحيان باعتبار أن رأي ودور الخبير مجرد دور استشاري وليس تقريري، وهو ما نصت عليه صراحة المادة الثانية من القانون 00 – 45 حيث جاء فيها : "… يمكن للمحاكم أن تستعين بآراء الخبراء القضائيين على سبيل الاستئناس دون أن تكون ملزمة لها " .
ومقابل هذا الاتجاه هناك من يؤكد على أهمية الخبرة واعتمادها في مجموعة من القضايا المتشعبة ويحرص كل الحرص على تفعيل المقتضيات القانونية التي تؤطر سير النظام القانوني للخبرة، ومواجهة كل إخلال بالحزم والصرامة لكل من سولت له نفسه التلاعب والخروج عما تروم تحقيقه هذه المقتضيات القانونية سواء في المادة المدنية أو الجنائية .
وأعتقد أن هذا الاتجاه الأخير هو ألأقرب إلى الصواب، لأن دواعي الاستعانة بالخبراء في تزايد مستمر ولا يمكن الإستغناء عنهم وتعويضهم بأي إجراء آخر وحرصا على حسن سير العدالة. وما تعاظم دور الخبرة القضائية وأهميتها إلا نتيجة حتمية لظهور وتطور مجموعة من الأنشطة الاقتصادية والتقنية التي يتعذر على القاضي الإحاطة بها بمفرده والفصل في المجالات المرتبطة بها بمعزل عن مساعدة فنية أو تقنية من ذوي الإختصاص .
1
لقد صدر ظهير شريف رقم 345 – 00 في 29 رمضان 1421 الموافق لـ 26 دجنبر 2000 بتنفيذ القانون رقم 85 – 00 الرامي إلى تعديل الفصول 59و60و61و62و63و64و65و66 من قانون المسطرة المدنية، وهو ما يطرح مجموعة من التساؤلات يمكن إجمالها في الآتي : ماهي خلفيات ودواعي التعديل ؟ ومدى انعكاسه على المستوى العملي ؟ أين يكمن الخلل ؟ هل في عدم تفعيل النصوص القانونية المرتبطة بالخبرة أم أن الإطار البشري المكلف بإجراء الخبرة عاجز عن الوفاء بما هو مطلوب منه ؟ وإلى أي حد يساهم في تكريس ما يصطلح عليه بأزمة الخبرة في ظل القانون المغربي ؟ كيف تعامل الاجتهاد القضائي مع هذه المقتضيات القانونية الجديدة في هذا المجال؟ وهل يعد هذا كافيا لرد الثقة في إجراء الخبرة واعتبارها إحدى الركائز الأساسية لتقنيات التحقيق القضائي وتفعيل مقتضياته بما يستجيب والغاية المنشودة من وراء سنه ؟ وما هي أهم السمات المميزة للخبرة في المادة الجنائية ؟
كلها أسئلة سنحاول الإحاطة بها –قدر الإمكان- من خلال هذه المناولة وفق الإجراءات المنهجية التالية :
المبحث الأول : الخبرة القضائية في المادة المدنية وفقا لنصوص قانون المسطرة المدنية .
المطلب الأول : القواعد المؤطرة لتعيين الخبراء .
المطلب الثاني : مناقشة تقرير الخبرة ومدى حجيته؟
المبحث الثاني : الخبرة القضائية في المادة الجنائية وفقا لنصوص قانون المسطرة الجنائية .
المطلب الأول : الجهات المختصة للأمر بإجراء الخبرة .
المطلب الثاني : النظام القانوني للخبرة في المادة الجنائية.
المبحث الأول : الخبرة القضائية في المادة المدنية وفقا لنصوص قانون المسطرة المدنية .
بخلاف الخبرة الاتفاقية التي تتم باتفاق يبرم بين أطرافها والخاضعة للقواعد العامة التي تحكم نظام التعاقد أو الخبرة التي يلجأ إليها الشخص من تلقاء نفسه لينتفع بها في نزاع قد ينشأ في المستقبل القريب أو البعيد . وتنقسم الخبرة القضائية إلى خمسة أصناف :
-1- الخبرة : تأمر بها المحكمة تلقائيا أو بناء على طلب أحد الخصوم أو كلاهما، وعلى المحكمة أن تبين دواعي إجراء الخبرة، وفي حالة رفض الطلب بإجرائها وجب عليها تعليل ذلك، والأصل في الخبرة أن المحكمة غير ملزمة بإجابة طلب تعيين الخبير . وأن الأمر متروك لسلطتها التقديرية، وفي هذا الاتجاه جاء في قرار صادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 07 مــارس 1995 :"يجب على المحكمة أن تبني حكمها على اليقين فإذا طلب أحد ألأطراف إجراء تحقيق للتأكد من واقعة ما وكان هذا الإجراء ضروريا للكشف عن الحقيقة، فيجب عليها الرد بشأنه إما بقبوله أو برفضه ." وقد تعهد هذه المهمة لخبير واحد أو عدة خبراء وذلك حسب أهمية وطبيعة موضوع الخبرة، حيث نصت المادة 66 من قانون المسطرة المدنية على أنه "إذا اعتبر القاضي أن الخبرة يجب ألا تقع عن خبير واحد فإنه يعين ثلاثة أو أكثر حسب ظروف القضية".
-2- الخبرة الثانية : وهي الخبرة التي تهم نفس القضية ولكن بخصوص نقط تختلف تماما عن تلك التي تتناولها الخبرة الأولى ويتم إسناده لنفس الخبير الذي أنجز الخبرة الأولى أو لغيره.
-3- الخبرة المضادة :يطلبها الخصوم أو تأمر بها المحكمة من تلقاء نفسها ويكون موضوعها مراقبة صحة المعطيات وسلامة وصدق ما خلصت إليه الخبرة الأولى .
–4- الخبرة الجديدة : وتكون عندما ترفض المحكمة نهائيا الخبرة الأولى لأي سبب من أسباب البطلان والذي يكون لعيب في الموضوع أو لعيب في الشكل، وينتج عن هذه التفرقة نتائج مهمة، فيكفي أن يكون العيب في الموضوع ليترتب البطلان، أما العيب في الشكل فلا يؤدي إلى البطلان إلا إذا كانت الشكلية التي تم إغفالها جوهرية وترتب عنها إضرار بأحد الخصوم كفقدان الخبير للأهلية أو إجراء الخبرة من خبير بتفويض من خبير آخر هو عيب موضوعي يستوجب إبطال الخبرة إما كليا أو في جزء منها، ويبقى للمحكمة أن تصادق جزئيا على هذه الخبرة، وعدم دعوة الخصوم إلى مختلف أطوار الخبرة تبقى الخبرة سليمة إذا حضروا لأن العبرة بالحضور وليس بالاستدعاء .
وتجدر الإشارة إلى أن البطلان يلحق بالحكم التمهيدي القاضي بإجراء الخبرة إما بإلغائه، والاستغناء عن الخبرة وإما بإلغائه واستبدال الخبير ولا يمس مطلقا الدعوى القائمة أمام القضاء .
–5- الخبرة التكميلية :تلجأ إليها المحكمة حينما يعتري الخبرة المنجزة على ذمة القضية نقصان واضح، أو أن الخبير لم يجب عن جميع الأسئلة والنقط الفنية المعين من أجلها، ويعهد بالخبرة التكميلية إلى نفس الخبير الذي أنجز الخبرة الأصلية أو إلى خبير آخر حسب تقدير القاصر.
وهناك الخبرة القضائية المتعلقة بتحديد نسبة العجز في حوادث الشغل، الأمراض المهنية (الفصل 11 من قرار وزير الشغل بتاريخ 20 ماي 1993) بالإضافة إلى الدعاوي المتعلقة بالبيوع القضائية بالمزاد العلني أو التي ترد على أموال القاصر .
وأن المشرع المغربي عمل على تنظيم مجال الخبرة في ثمانية فصول من قانون المسطرة المدنية وذلك في الفرع الثاني من الباب الثالث المتعلق بإجراءات التحقيق، وقد طالها التعديل بمقتضى القانون رقم 00 – 85 الصادر بالجريدة الرسمية، النشرة العامة السنة 90 عدد 4866 ص : 233 وما يليها بتاريخ 23 شوال 1421 هجرية الموافق لـ 18 يناير 2000، وهذا التعديل جاء كنتيجة حتمية لما كان من إهدار لحقوق الأطراف وتأخير البت في جوهر دعاويهم في كثير من المناسبات، وبذلك يعد تدخل المشرع المغربي استجابة لمجموعة من النداءات ومن الدراسة العميقة للوضعية التي آلت إليها الخبرة القضائية في ظل المنظومة القانونية المغربية، فماذا استجد في مضامين المقتضيات القانونية المنظمة للخبرة في قانون المسطرة المدنية وفقا لآخر التعديلات؟ وإلى أي مدى ساهمت في إعادة بلورة الدور الحقيقي من إقرار هذا الإجراء التمهيدي؟
وفي سبيل المحاولة للإحاطة بهذه التعديلات والإجابة عن التساؤلات التي يطرحها هذا الموضوع الشائك، سوف أتناول في هذا المبحث : القواعد المؤطرة لتعيين الخبراء (المطلب الأول) مناقشة تقرير الخبرة ومدى حجيته؟ (المطلب الثاني) .
1
المطلب الأول : القواعد المؤطرة لتعيين الخبراء .
لعل من بين أهم القواعد المرتبطة بتنظيم مجال الخبرة تتمثل في إمكانية القاضي اللجوء إلى الخبرة عند الضرورة من تلقاء نفسه أو بناء على طلب أحد الخصمين أو وفقا لطلبهما معا، إلا أنه يتعين على القاضي حينما يرفض طلب إجراء خبرة أن يعلل موقفه، وإن كان المجلس الأعلى قد قرر في المجال الإجرائي أن عدم الرد هذا لا يمكن تفسيره أحيانا إلا بأنه رفض ضمني لإجراء الخبرة لا يفسد الحكم أبدا ما لم يتعلق الأمر بطبيعة الحال بإجراء قد يترتب على إغفاله إضرار بالخصم تطبيقا لمقتضيات الفصل 49 من قانون المسطرة المدنية، ولذلك نص المشرع المغربي في المادة 59 من قانون المسطرة المدنية على صلاحيات القاضي في الأمر بإجراء الخبرة تلقائيا أو باقتراح الأطراف واتفاقهم..... للمزيد يمكنك تحميل الملف من المرفقات .