الأرمل ..!!
مقالة للمغفور له بإذن الله .. د. يحيى الاحمدي
انتظرته بعيدا حتى انتهى من وضع باقة الزهور فوق القبر .. ورفع يديه إلى مستوى صدره وقرأ الفاتحة على روحها .. ثم تراجع بظهره وهو لا يرفع بصره عن قبرها .. إلى أن أوقفت تراجعه بكلتا يدى قبل أن يصطدم بأحد طفليه اللذين كانا متشبثين بسروالى فى خوف وهلع شديدين ..!!
سار بجانبى دون أن ينطق بكلمة .. لكن دموعه ظلت سخية لا تتوقف .. إلى أن وصلنا إلى مكانالسيارة .. ففتحت له الباب الأمامى وأركبت طفليه فى المقعد الخلفى .. وجلست أنا إلى مقعد القيادة وانطلقت عائداً إلى بيته ..!
ما أن دلفنا من باب شقته حتى ألقى بجسده إلى أقرب المقاعد إلى الباب .. ووضع رأسه بين كفيه وواصل نحيبه .. فأشرت إلى خادمته العجوز أن تصنع لنا فنجانين من القهوة وأن تأخذ الطفلين إلى غرفتهما .. وانتقلت من مقعدى إلى الكرسى المجاور لكرسيه .. وقلت له بصوت خفيض :
ـ إلى متى ياصاحبى سيظل حزنك عليها حاراً هكذا وكأنها رحلت بالأمس .. لقد مضى على موتها ثلاث سنوات إلا قليلا وأنت على حالك هذا من الحزن والإنطواء لم تتغير .. ليس هكذا يكون الحزن يا صاحبى .. ولو أنها بيننا الآن ما ارتضت لك هذا الحال القاتل لك ولطفليك .. هذا يكفى جداً يا صديقى و لتلتفت إلى نفسك وأعمالك وحياتك .. فنحن لم نسمع بعد عمن مات خلف عزيز له .. ولم يحدث أن توقفت الحياة بموت أحد .. وكما أن لها عليك حق الوفاء فإن لنفسك عليك حق أيضا .. وأظن أن الآوان قد آن لتفض سرداق حزنك وتلتفت إلى امرأة أخرى ترعاك وتحفظ لك وعليك دينك .. وإلا غضب الله عليك يا صاحبى ..!!
نظر ناحيتى بجانب عينيه اللتين ملأتهما الدموع نظرة قاسية .. وكأنه يستنكر بها أن يصدر عنى أنا بالذات مثل هذا الكلام وأنا الذى أعرف إلى أى مدى كانت علاقتهما وتعلقهما ببعضهما .. لكننى تجاهلت نظرته العاتبة وتشاغلت عنها باستعجال القهوة بصوت عال من الخادمة .. ثم قلت له بعد فترة صمت كئيبة خيمت على المكان :
ـ يا صاحبى .. لا أنكر أن المرأة كانت بالأمس لك زوجة .. وحبيبة .. ووفية .. وكانت وكانت وكانت .. ولا أحد يستطيع أن ينكر عليها - يرحمها الله - ذلك .. لكنها يا صديقى " كانت ".. وهذا يكفى .. وأنت الآن بحاجة إلى من " تكون " لك اليوم وغداً وبعد غد .. وليس عدلاً أن تظل أرملاً طوال عمرك .. لا بد لك من امرأة تحتل قلبك بعدما رحلت من كانت تحتله فى حياتها ..!!
ـ لا وألف لا .. فهذا عهد قطعته على نفسى أمامها يرحمها الله . يا صديقى .. ولا يمكن أن أنكث فى عهدى وإلا غضبت منى .. وأنا لا أحتمل أن تغضب منى حتى لو كانت فى العالم الآخر ..!!
ـ قطعت أمامها عهداً أن تنتحر حزناً .. أن يتوقف سير حياتك لأنها غادرت الحياة .. لا أظن أنك فعلت ذلك .. ولا يمكن لعاقل أن يفعل ذلك ..!!
لم يلتفت ناحيتى بل ظل محدقاً فى سقف الغرفة .. وعيناه شاخصتان إلى لا شئ وتحدث كأنه يهمس لنفسه :
ـ كانت ليلة رائعة من ليالى الحب ونحن زوجان وكأننا لا نزال خطيبين .. سألتها فيها عما فى نفسها من رغبة لم أحققها لها .. فقالت لى بأنها أسعد مخلوقات الله أن ارتبطت بى .. لكنها ترجونى إن كنت أريد أن أتم عليها سعادتها أن أعاهدها على شئ يريحها من تفكير مؤرق يعاودها بين الحين والحين .. فسألتها بلهفة عن ذلك الأمر .. وكيف يمكن أن يؤرقها شئ يؤرقها فى هذه الدنيا وأنا حى أرزق .. فقالت لى : إذن عاهدنى بكل غال وعزيز لديك ألا تشمت فى أحد من أهلى أو معارفى أو صديقاتى .. عاهدنى ألا تميل إلى امرأة أخرى غيرى أو تتزوجها على .. عاهدنى ألا تدخل إلى قلبى مرارة الإحساس بغدر الحبيب يوما .. فأنا قد وهبت نفسى لك .. ونذرت حياتى لاسعادك .. دون أن أخشى يوما أن تخطف قلبك منى امرأة أخرى .. فإن كنت تحبنى حقاً فعاهدنى على ذلك ..!!
فقلت لها وأنا احتضنها بكل الشوق والحب : إذن اسمعى ياحبيبتى .. أنا أعاهدك أمام الله ألا أشمت فيك أحداً من أهلى أو من أهلك أو معارفك أو صديقاتك لا فى حياتك .. ولا ـ لا قدر الله ـ بعد مماتك .. ولو حدث - لا قدر الله - أن جاءك الأجل الذى لا رد له .. فإننى أعاهدك أيضا على أن أكتب ملحمة وفاء وإخلاص لك يحكى بها القاصى والدانى .. فلا تدخل دارك امرأة غيرك .. ولا أنظر إلى امرأة غيرك .. ولا أنساك ولو طرفة عين .. يا أحب الأحباب ..!! ثم رحنا فى نوبة عناق طويلة .. أفقت منها على لسعة دمعاتها فوق ظهري ..!!
فهل عرفت الآن يا صاحبى كيف أننى لا أستطيع أن أغدر بذاك العهد الذى عاهدتها عليه ..؟؟!!
************
انعقدت الكلمات فى حلقى .. وابتلعت ريقى مرات ومرات .. ربما خجلاً وربما ارتباكاً .. فقد باغتنى صاحبى بما لم نعرفه أو نسمع عنه إلا في قصص الغرام التى يبدعها المؤلفون من وحى خيالهم المرهف .. أما الحياة الواقعية فقد اعتادت أن تطرح علينا غير ذلك .. فالذى تعرفه أن الرجل الذى يطيل عمر عزوبيته بعد امرأته أكثر عرضه للإثم والذنب .. فقد خلقت المرأة للرجل .. تعينه على حسن عبادته لله .. وتغض بصره عن محارم الله عندما يأتيها .. وترعى له كل أمره .. ولسنا ننسى قصة الصحابى الذى خطب لنفسه زوجة يوم وفاة امرأته .. ولما سئل عن ذلك قال .. " ما أحببت أن أبيت وربى غاضب على ".. !! لكن الحق يقتضى أن أقول اننى احترمت الرجل وأكبرته .. فللحزن قدسية لا يجرؤ على انتهاكها إلا غليظ القلب .. وأنا لست كذلك .. وللوفاء من هذا النوع بهاء لا يملك أحد إلا الإعجاب به وبصاحبه .. وبصاحبته .. لكننى كنت مشفقاً على صاحبى من طول عهد هذا الوفاء .. ومشفقاً عليه من جفاء الليالى الباردة دون حبيبة تشيع فيها دفئاً .. ومشفقاً عليه من صعوبة رعايته لطفليه اللذين لم يستغنيا بعد عن رعاية النساء .. ومشفقا عليه من أيام شيخوخة قادمة لا يجد فيها من تؤنس وحدته وتعينه على انتكاساتها ..!!
***********
تناولت القهوة من الخادمة .. ومددت إليه يدى بفنجانه .. فتناوله وهو شارد الذهن مرتعش اليد دامع العين .. فقلت له بعد أن ارتشفت من فنجانى رشفة استمد منها بعض الجرأة على ما سأقوله :
ـ اسمع يا صاحبى .. أنت بالتأكيد أدرى بأمر نفسك منى .. ولا يجب أن أفسد عليك سعادتك بوفائك هذا .. لكننى استحلفك بالله أن تعيد النظر فى أمر عهدك هذا الذى قطعته على نفسك .. فمنطقى ألا تشمت بها أحداً فى حياتها .. أما بعد وفاتها .. فلا أظن الا أنك تشمت كل الناس فيك .. بترك كل أمرك فى الدنيا دون إعمار أنت مطالب به .. وأنت تعلم أنه لا رهبانية فى الإسلام .. ولن أزيد على ذلك يا صديقى .. لكننى أظن أنه سيكون بيننا كلام طويل فى هذا الموضوع .. وأظن أيضا أنك ستوافقنى على رأيى يوما .. لكننى أطمع ألا يأتى ذلك اليوم متأخراً .. بعدما يولى من بين يديك ما ستقدمه بين يدى المرأة التى ستختار لها أن تكمل معك مسيرة الحياة "الرائعة ".. التى تستحق أن نئد من أجلها كل أحزاننا .. وأن نتراجع أمامها عما لا طاقة لنا به داعين الله أن يعفو عنا ويغفر لنا ويرحمنا .. فإنه مولانا ونعم النصير.