الاستشهاد..!!
مقالة للمغفور له بإذن الله .. د. يحيى الأحمدي
ليس هو الاستشهاد فى سبيل الله الذى يحلم به كل مؤمن لينال شرف الحياة فى السماء .. وليس هو الاستشهاد بالأدلة والبراهين على أن كل نقوله هو الحق أو الصواب .. لكنه استشهاد - أو حلم استشهاد ـ من نوع مختلف تماما ً .. حلم ينام هاجعا فى نفوس الكثيرين ليصحو كل حين .. عندما تنال من نفس صاحبه جولة هزيمة أو يخفق فى منافسة .. أو تظلمه الحياة كما يحلو له أن يردد..!!
إن ما يخامر واحد هذا الصنف من الناس ـ وبمعنى اّخر ـ هو دوما الإحساس بأنه "ضحية".. أو انه دائما ً "ذبيح"..فهو المظلوم دائماً .. وهو الذى تعود أن تجور عليه الأيام .. وأنه قد كتب عليه أن يعانى كى يستريح غيره .. وأنه ما يكاد يقوم من مرض إلا وتصيبه علة .. وهو فى كل الأحوال راض دوماً بنصيبه وقدره .. فماذا عليه أن يفعل إذا كان "حظه قليل".. ألا يقول المثل "قيراط حظ ولا فدان شطارة "و"كل واحد بياخذ نصيبه "و"اللى مكتوب ع الجبين لازم تشوفه العين"..!!
الأدهى من ذلك ان المغرقين فى حلم الاستشهاد هؤلاء .. يتلذذون أيما تلذذ بهذا الإحساس "الدوني".. الذى له دلالات نفسية خطيرة عند المحللين النفسيين .. فهولاء يرون دائماً أن رضاءهم بهذا الهوان هو نوع من "الطيبة" و"حسن الخلق".. فالواحد منهم لا يدافع أبداً عن حقه.. ولا يدفع أبداً عن نفسه اتهاما .. متشدقاً بأن الله مطلع على السرائر .. وانه قد فوض أمره كل لله .. متجاهلا أن الله يحب المؤمن القوى .. وأننا مأمورون أن نجاهد ونقاوم من يعتدي على أمولنا أو أعراضنا .. ثم بعد ذلك ـ وقبله ـ نتوكل على الله ونفوض أمرنا إليه ..!!
وآفة هؤلاء الناس .. أنهم قد ينتقلون بأحلام الاستشهاد التى لديهم من عالم الواقع .. إلى المنطقة المتوسطة بين الوعي واللاوعي .. فيمارسون هذا الشعور فى "أحلام يقظتهم".. فيتخيل الواحد منهم أنه قد مرض مثلاً وأن الناس لا تأتى لزيارته .. فيظل فى سريره وحيداً "مقطوعا" .... أو أنه يعانى من تدبير ثمن الدواء اللازم لعلاجه أو أجر إقامته فى المستشفى .. أو يتخيل الواحد منهم أنه قد فقد أبناءه فى حادث مثلاً .. وأن الناس قد جاءت لتواسيه فى مصيبته وهو بينهم ينتحب بكاء وعويلاً .. كل ذلك وهو مفتوح العينين يقظ المشاعر والإحساس تماما.. والأدهى أنه يعاقر لذة من نوع ما أثناء ممارسته لتلك الأحلام "الشاذة" التى قد لا يكون لها مبرر على الإطلاق اللهم إلا "رغيته العارمة" فى ممارسة هذا الإحساس بأنه ضحية أو أنه شهيد غدر الحياة والناس ..!!
بعض الناس السيكولوجيين يرون أن لهذا السلوك المرضى جذوراً فى مرحلة الطفولة .. التى يمارس فيها الآباء نوعاً من "الغباء التربوي " إن جاز التعبير .. فيعاقبون أبنائهم مثلاً ثم سرعان ما تنفطر قلوبهم لبكاء الطفل أو غضبه فيسارعون إلى إرضائه .. أو ينفضون أيديهم تماما من الاهتمام بالطفل إلا فى حالة مرضه .. فإنهم يبالغون فى الاهتمام على عكس ما هو معتاد عليه من لا مبالاتهم الدائمة بحاله .. فيشب الطفل معتاداً على استخدام البكاء والتمارض لاستدرار عطف من حوله .. ونحن قد نلحظ مثل تلك المشاعر فى مرحلة المراهقة لدى الفتيات اللواتى يدعين الإغماء داخل الصف ووسط زميلاتهن حتى يحظين بالاهتمام المفتقد داخل أسرهن .. والذى تعودن ألا يحصلن عليه إلا وهن فى حالات المرض أو التمارض ..!! والبعض الآخر من علماء النفس يرون أنه نتيجة حتمية للمرور فى عدد من الخبرات التى لم يتحقق لصاحبها مكسب قط إلا فى حالات ضعفه وهوانه .. كأن يدعى أمام المعلم أنه لم يحضر كراس المادة لأن أباه فقير أو مريض فيعفو المعلم عنه .. أو يصاب فى حادث مثلا فيجد أن بعض أعدائه قد عادوه فى مرضه فزال عنه هم ما يحمله من خوف من بطشهم أو انتقامهم .. والأمثلة كثيرة .. إلا أن ما يعنينا هو أن تراكم مثل تلك الخبرات قد يؤدى إلى تغلغل الإحساس لديه بأنه فى حالة الضعف والهوان أكثر راحة نفسية منه فى حالة القوة وتوكيد الذات .. فيلجأ إلى ممارسة حلم الاستشهاد هذا على المستوى الواعي أو فى أحلام يقظته .. !!
ترى .. كم بيننا يحمل مثل تلك المشاعر .. سواء أعلنها على الناس أو ظلت حبيسة نفسه المريضة ..؟؟!! وهل نحن نعاملهم على أنهم طيبون .. أم مرضى؟؟؟؟