بسم الله الرحمن الرحيم
عرف مفهوم الموظف العمومي عدة صعوبات في تحديد النظام القانوني الذي يحكم قواعد استخدامه ، فهل يخضع لأحكام قانون الشغل ؟ أم يخضع لأحكام قانون الوظيفة العمومية ؟ أم يخضع لقوانين أخرى خاصة ؟
الواقع أن تحديد مدلول الموظف العمومي يستلزم استحضار مفهومين أساسيين : مفهوم ضيق ( المفهوم الإداري ) و مفهوم موسع ( المفهوم الجنائي ) .
فالمفهوم الأول تتفرع عنه ثلاثة أصناف رئيسية وفقا لما يلي :
1.الموظفون : وهم الأصناف الذين ينطبق عليهم تعريف الموظف العمومي بالمعنى الدقيق حسب ما جاء في قانون الوظيفة العمومية الصادر في 24 فبراير 1958 فهم لا يختلفون عن باقي موظفي الدولة في الوزارات والمرافق التابعة لها.
2.الموظفون الخاضعون للنظام الخاص للمؤسسة العمومية : وهو نسخة طبق الأصل من القانون العام للوظيفة العمومية ، ويتعلق الأمر بالظهير الصادر بتاريخ 19 يوليوز 1962 الذي وحد القانون الأساسي المطبق على العاملين في المؤسسات العمومية ووقع تتميمه بظهير 16 نونبر 1962 وكذلك مرسوم 14 نونبر 1963 وكلاهما يتعلقان بالمناصب العليا ومناصب المديرين في المقاولات العمومية .
3.المتعاقدون : وهم المرتبطون مع المؤسسة العمومية بمقتضى عقود إدارية تتضمن الشروط غير المألوفة في القانون الخاص ويخضعون للقانون العام ومنهم فئة أخرى أبرمت مع المؤسسة عقودا خاصة تشبه العقود المبرمة في ظل قانون الشغل والتي تربط العامل برب العمل )1( .
وخلافا لجل القضايا الجنائية المعروضة أمام القضاء العادي ، فإن المحاكم الاستثنائية تأخذ صفة الجاني كمعيار من معايير الاختصاص ، وتبعا لذلك فإن محكمة العدل الخاصة مثلا لا تبت في القضايا المعروضة أمامها إلا إذا كان المتهم فيها موظفا عموميا ، وهذا ما يدفعنا إلى بحث مفهوم الموظف العمومي الذي يثير عدد من الإشكاليات أمام محكمة العدل الخاصة ، ويختلف باختلاف الدول والأنظمة القانونية ، وهكذا يمكن أن نقول بأن الموظف العمومي مفهومين أحدهما إداري (المبحث الأول ) وثانيهما جنائي (المبحث الثاني) .
المبحث الأول : المدلول الإداري للموظف العمومي :
يثير تعريف الموظف العمومي إشكالية تتمثل في وجود محاولات متعددة لتحديد العناصر الأساسية التي يجب أن تتوفر في هذا التعريف . ونلاحظ أن هذه المحاولات تتأثر بمختلف العوامل والتطورات التي عرفها تحديد مفهوم القانون الإداري نفسه ومجالات تطبيقه .
لهذا نجد تعريف الموظف العـمومي يتأثر بتـطور معايير تطبـيق القانـون الإداري ، يعـني هـل يكـفي أن يـكون الشخـص في خـدمة الإدارة ليعـتبر موظفا عموميا ، أم يجب أن يكون في خدمة الإدارة بصفتها سلطة ، أم يجب فقط أن يكون في خدمة المرفق العام لم يصبح كافيا لتطبيق قواعد القانون الإداري ، وبالتالي لا يكفي أن يكون الشخص في خدمة مرفق عام حتى نعتبره موظفا عموميا.
و قد لعب الفقه و القضاء دورا مهما في تحديد مفهوم الموظف العمومي ، ثم يأتي المشرع أحيانا ليتبنى هذا التعريف بصفة عامة أو يحدد بشكل أدق بعض جوانبه .
لذا ، سنقسم هذا المبحث إلى مطلبين أساسيين ، نتناول في الأول التشريع و الفقه و القضاء المقارن ، و نتطرق في الثاني لموقف القانون الإداري المغربي .
المطلب الأول : مفهوم الموظف العمومي في التشريع و الفقه و القضاء المقارن :
بالإضافة إلى مختلف النصوص التشريعية في القانون المقارن ، حاول الفقه والقضاء أن يقدم تعريفا دقيقا للموظف العمومي ، و يتجلى هذا المجهود في الوصول إلى تحديد عناصر أساسية يجب توفرها في الشخص العامل بالمؤسسة العمومية حتى يمكن اعتباره موظفا عموميا ، و بالتالي تمييزه عن باقي الأشخاص الذين يعملون بها . و استفادة من النتيجة التي توصل إليها الفقه و القضاء في تعريف الموظف العمومي ، عمد المشرع في معظم الدول التي تميز بين الموظف العمومي و غيره من المأجورين إلى تقديم تعريف للموظف العمومي من خلال إبراز و تحديد الشروط التي يجب توفرها فيه ، و بالتالي التأثير على العناصر الأساسية اللازمة لتحديد الموظف العمومي.
لكن بصفة عامة يبدو أن جل تعريفات الموظف العمومي التي تناولها التشريع و الفقه و القضاء في الأنظمة المقارنة تتسم بالتباين و الاختلاف و التقارب في أحيان كثيرة ، إلا أن معظم فقهاء القانون الإداري إلى جانب القضاء يتفقون على اشتراط ثلاثة عناصر أساسية في مفهوم الموظف العمومي ، وهي :
- القيام بالعمل بصفة دائمة .
- العمل بمرفق عام معين .
- التعيين من طرف سلطة مختصة .
و أمام هذا التباين في التعريفات ، نلاحظ أن جل التشريعات المقارنة لم تقدم تعريفا شاملا جامعا لمفهوم الموظف العمومي ، وذلك راجع بالأساس إلى أن الصياغة الحديثة للقوانين تميل إلى عدم إيراد التعاريف قدر الإمكان ، تاركة تلك المهمة للفقه والقضاء كي يعملا على تطوير القواعد القانونية . ولتوضيح هذا التباين سنتطرق إلى محاولات وجهود التشريع والقضاء المقارنين كل على حدة :
أولا : التشريع :
يختلف تعريف الموظف العمومي ومفهومه من دولة إلى أخرى ، تبعا لاختلاف الوظائف العمومية نفسها بالنسبة للدول ولما تعطيه لها من أهمية .والوظيفة العمومية في كل دولة معينة هي ثمرة تطور تاريخ مرت به متأثرة في ذلك بمجموعة من العوامل المختلفة كالموقع الجغرافي والمستوى الاقتصادي والاجتماعي لذلك البلد والنظام السياسي السائد فيها. كما أن الطبيعة المتطورة للقانون الإداري تجعل من المستحيل التسليم بتعريف محدد للموظف العمومي لفترة طويلة من الزمن داخل الدولة الواحدة الأمر الذي أدى بالمشرع في غالبية الدول إلى الابتعاد عن وضع تعريف للموظف العمومي ملقيا بتلك المهمة على عاتق الفقه والقضاء كما أشرنا إلى ذلك سابقا . لكن بالرغم من ذلك حاولت أغلب التشريعات في الأنظمة المقارنة تقديم تعريف للموظف العمومي يحدد الشروط التي يجب توفرها أخذا بعين الاعتبار التطورات التي يعرفها قطاع الوظيفة العمومية .
فالمشرع الفرنسي الذي يأخذ بالنظام المغلق للوظيفة العمومية أي بنظام السلك الإداري ، وذلك رغبة في تحقيق الفرق بين القطاعين العام والخاص ، وعلى هذا الأساس حاول أن يعطي تعريفا ضيقا ومضبوطا من خلال مجموعة من القوانين :
- قانون 14 شتنبر 1943 الصادر في عهد حكومة فيشي ،حاول فقط إعطاء تصنيف للموظفين العموميين دون تقديم تعريف شامل للموظف العمومي .
- قانون 19 أكتوبر 1946 عرف الموظفين العموميين بأنهم كل الأشخاص الذين وقع تعيينهم في عمل مستمر وترسيمهم في السلم الإداري بين أطر الإدارة المركزية التابعة للدولة أو المصالح الخارجية المستقلة أو المؤسسات العمومية للدولة ولكن باستثناء القضاة والعسكريين .
- قانون 4 غشت 1959 اكتفى فقط بتحديد الأشخاص الذين يجب أن يسري عليهم القانون السابق فاكتفى بمجرد إعادة صياغة نفس التعريف السابق .
- قانون 11 يناير 1984 المتعلق بالوظيفة العمومية للدولة اعتبر في مادته الأولى بأنه يتعلق بكل موظفي الإدارة والوحدات الإقليمية ، وهم حسب المادة الثانية كل الموظفين المعينين في وظيفة دائمة والعاملين كل الوقت والشاغلين لرتبة في السلم الإداري بالإدارات المركزية للدولة والمصالح الخارجية المستقلة والمنشآت العامة للدولة ، باستثناء القضاة والعسكريين كما جاء في مادته الثالثة .
- قانون 26 يناير 1984 المتعلق بالوظيفة العمومية المحلية الترابية يؤكد نفس التعريف ويركز على نفس الـشروط مع تـحديد مخـتلف الموظفين بالإدارة الترابية .
وعموما ، نلاحظ من هذه التعريفات أن المشرع الفرنسي يؤكد على بعض العناصر الأساسية في تعريف الموظف العمومي ، وهي : التعيين ، الترسيم ، العمل في وظيفة دائمة لخدمة مرفق عام تابع للدولة ثم الإندماج في الهرم الإداري .
أما المشرع المصري فلم يعط للموظف العمومي أي تعريف دقيق ومحدد في مختلف القوانين الخاصة بالنظام الأساسي للوظيفة العمومية ، ولكن نجد مع ذلك محاولة لتحديد الأشخاص الذين يعتبرون موظفين عموميين ، لهذا يبقى استخراج العناصر الأساسية لتعريف الموظف العمومي في مصر من الاجتهاد القضائي والنقاش الفقهي وليس من نص صريح للمشرع . وهذا ما يمكن ملاحظته أساسا من نص الفقرة الأخيرة من المادة الأولى من القانون المصري رقم 47 لسنة 1978 الذي يكتفي بالقول بأنه " يعتبر عاملا في تطبيق أحكام هذا القانون كل من يعين في إحدى الوظائف المبينة بموازنة كل وحدة " .
ونلاحظ أن هذا النص في الواقع لم يأت بتعريف شامل للموظف العمومي ولكن اكتفى بإعادة صياغة ما كان منصوصا عليه في القوانين المماثلة السابقة سنة 1971 أو سنة 1964 أو سنة 1951 .
وإذا كان المشرع المصري متأثرا بنظيره الفرنسي لم يعرف الموظف العمومي بشكل دقيق متجنبا الدخول في متاهات تحديد المفاهيم فإن المشرع العراقي ولو أنه لم يقدم التعريف الشامل والدقيق فإنه أضاف بعض العناصر الأخرى تساعد على تعريف الموظف العمومي ، وعلى هذا الأساس عرف هذا الأخير بأنه : كل شخص عهدت إليه وظيفة في الحكومة لقاء راتب يتقاضاه من الميزانية أو ميزانية خاصة تابعة لأحكام التقاعد ، كما تعرض في قانون الخدمة المدنية الصادرة سنة 1939 لتعريف الموظف العمومي في مادته الثانية بأنه : " كل شخص عهدت إليه وظيفة دائمة داخلة في ملاك ( إطار) الدولة الخاص بالموظفين ".
وأمام عدم كفاية التعريفات التي قدمتها التشريعات المقارنة ، عمد الفقه بدوره إلى محاولة صياغة تعريف للموظف العمومي .
ثانيا : الفقه :
ساهم الفقه بدوره في تقديم بعض التعاريف التي تختلف باختلاف المدارس والنظريات الفكرية ، فالفقه الإداري الفرنسي ساهم في إعطاء تعريفات للموظف العمومي وإن كانت متباينة في مضامينها فإنها تعد بحق محاولة جادة لتأصيل المفهوم، ففي الوقت الذي تبنى فيه الفقيه " ألان بلانتي " تعريفا واسعا وغير دقيق للموظف العمومي من خلال تأكيده بأنه هو كل شخص يساعد وبشكل مستمر على القيام بمهمة تعمل على تنفيذ خدمة إدارية عامة ، قدم الفقيه " أوندري هوريو " تعريفا مهما يتضمن مختلف العناصر والشروط المكونة لصفة موظف عمومي يماثل ما جاء به قانون سنة 1946 الفرنسي ، حيث يعرفه بأنه كل شخص تم تعيينه من طرف السلطة العامة المختصة داخل الإطارات الدائمة لمرفق تديره الدولة أو الإدارات التابعة لها . وفي تعريف مشابه يمكن أخذه هو كذلك بعين الاعتبار يرى الفقيه " لويس رولوند " بأن الموظف العمومي هو كل شخص تم تعيينه من طرف السلطة المختصة من أجل عمل مستمر أو يتميز ببعض خصائص الاستمرارية وذلك داخل الإطارات الإدارية المنظمة من أجل سير المرافق العامة .
في حين يعرف الفقيه " أوندري دولوبادير" الموظف العمومي بأنه مبدئيا هو العون العمومي الذي تم تكليفه بعمل عمومي دائم وموجود في إطار سلم إداري لمرفق عام تشرف عليه هيئة عامة ، وأخيرا نورد تعريف الموظف العمومي لدى " مارسيل فالين " الذي يرى بأنه هو كل شخص ساهم بطريقة عادية في تدبير مرفق عام ويشغل منصبا دائما داخل الإطارات الإدارية.
وفي مصر أجمع الفقه على تعريف الموظف العمومي بأنه الشخص الذي يساهم في عمل دائم في خدمة مرفق عام تديره الدولة أو أحد الأشخاص العامة ، فقد اعتبر الفقيه محمد سليمان الضاوي بأن صفة الموظف العام لا يمكن أن تطلق على الشخص ولا يمكن أن تسري عليه أحكام وقواعد ومبادئ الوظيفة العمومية إلا إذا ما تم تعيينه في عمل مستمر ودائم وفي خدمة مرفق عام تديره الدولة أو تديره السلطة الإدارية بشكل مباشر .
أما الأستاذ محمد فؤاد مهنا فقد عرفه بأنه كل شخص عهد إليه بعمل دائم في خدمة مرفق عمومي يقع تحت إدارة السلطات الإدارية المركزية أو المحلية أو المرفقية ثم أنه أصبح شاغلا لوظيفة تدخل في النظام الإداري . وعرفه الأستاذ توفيق شحاتة بأنه هو كل شخص عينته الإدارة بقرار من أجل القيام بعمل دائم داخل مرفق عام أو داخل وحدة إدارية.
وأخيرا عرفه الأستاذ حامد سليمان بأنه كل شخص عهد إليه بعمل دائم من أجل خدمة مرفق عام تديره الدولة أو أحد أشخاص القانون العام الأخرى وصدر قرار بتعيينه حتى يشغل منصبا يدخل في التنظيم الإداري للمرفق.
وإذا كان الفقه المصري لا يختلف كثيرا عن الفقه الفرنسي في تعريفه للموظف العمومي ، حيث ركز بدوره عن أهم العناصر الجوهرية كالتعيين والترسيم والعمل في خدمة مرفق عام ، فإن الفقه في إمارة دبي أجمع بدوره على أن صفة الموظف لا تقوم بالشخص ، ولا تجرى أحكام الوظيفة العمومية ، إلا إذا كان معينا في عمل دائم في خدمة مرفق عام تديره الدولة أو إحدى السلطات الإدارية بطريق مباشر.
ويمكن أن نستخلص من التعاريف الفقهية المتقدمة أهم العناصر التي يشترط توافرها لكي يعتبر الشخص موظفا عموميا وهي :
- أن يقوم الموظف بعمل دائم في صورة منتظمة ومستمرة .
- أن يعمل في خدمة مرفق عام تديره الدولة إدارة مباشرة أو يدار بواسطة هيآت إدارية مستقلة كالمؤسسات العمومية .
- صحة تعيين الموظف أي يكون قرار التعيين صحيحا لا يشوبه بطلان .
ثالثا : القضاء :
نشير بداية أن القضاء يستمد أحكامه من الفقه والتشريع الشيء الذي يجعل من الصعب الفصل بين كل منهما ، إلا أن الاجتهادات القضائية تحاول دوما تطوير المفاهيم والعناصر التي يرتكز عليها مفهوم الموظف العمومي ، لذلك فالأحكام القضائية تتمم ما جاء به الفقه والتشريع ، كما أن التعاريف التي استقر عليها القضاء هي معظمها متشابهة وليست هناك اختلافات جوهرية فيما بينها .
فقد عرف القضاء الفرنسي الموظف العمومي بأنه كل شخص تم تكليفه بعمل مستمر ودائم في خدمة مرفق عام، أما العاملين بالمرافق العامة الصناعية والتجارية فقد ميز بينهم واعتبر القائمين بمهام التوجيه والرئاسة والمحاسبة موظفين عموميين ، أما الباقي منهم فيخضعون للقانون الخاص ويختص بمحاكمتهم القضاء المدني .
وفي مصر ، كان الاجتهاد القضائي أكثر دقة حيث عرفت المحكمة المصرية في القضاء الإداري الموظف بأنه هو كل شخص أنيطت به وظيفة معينة من وظائف الدولة وذلك في نطاق إحدى السلطات الثلاث ، سواء كان مستخدما حكوميا أو غير مستخدم ، أو كان يعمل براتب معين أو بغير راتب ، شريطة أن تكون وظيفته في نطاق شؤون الدولة وأن يكون اختصاصه عن طريق الإنابة أو التعيين ، وذلك بمقتضى النصوص التشريعية أو من المعينين في وظائف حكومية تابعة لإحدى الوزارات أو المؤسسات العامة .
أما محكمة النقض المصرية فقد انتهت إلى تعريف الموظف بأنه كل شخص عهد إليه بعمل دائم في خدمة مرفق عمومي تديره الدولة أو أحد أشخاص القانون العام بأسلوب الاستغلال المباشر عن طريق شغله لمنصب يدخل في التنظيم الإداري لهذا المرفق .
في حين اعتبرت المحكمة الإدارية العليا بأن الموظف العمومي هو كل شخص معين من طرف جهة قانونية مختصة وفي عمل دائم لخدمة مرفق عمومي تديره الدولة أو أحد أشخاص القانون العام .
وهكذا يتضح أنه لا يمكن الفصل بين التعاريف التي قدمها كل من الفقه والقضاء في مصر ، إلا أننا نلاحظ أن الاجتهادات القضائية كانت أكثر دقة في تأصيل مفهوم الموظف العمومي ، كذلك الشأن بالنسبة إلى تعريف الموظف العمومي في القانون الإداري المغربي؟
المطلب الثاني : تعريف الموظف العمومي في القانون الإداري المغربي :
لم يكن المغرب يتوفر قبل الحماية الفرنسية المفروضة عليه سنة 1912 على أية إدارة متطورة وحديثة بمفهومها الغربي ولا على أي نظام أساسي خاص بالوظيفة العمومية، وبالتالي كانت جل المفاهيم المعاصرة في المجالين السياسي والإداري غائبة ولا تحظى بالاهتمام المطلوب ، ومن بين هذه المفاهيم نجد مفهوم الموظف العمومي الذي كان موجودا بالفعل خلال تلك المرحلة لكن في إطار تقليدي غير مقنن وفقا لما تضمنته التشريعات الحديثة ، فإلى جانب الحكومة المخزنية كان النظام المخزني في المغرب يتوفر على طاقم إداري تقليدي متكون من العمال والباشوات والقياد والولاة والشيوخ والمقدمين يقومون بخدمة العرش والمحافظة عليه ويقومون كذلك بتدبير الشؤون المخزنية المختلفة ، فكان " المخزني " كمفهوم تقليدي لفكرة الموظف العمومي خادما للدولة والأعتاب الشريفة والسلطان ، يمثله وينوب عنه ويجسده ويذوب في ذاته وكيان الدولة الشريفة ، حتى صار الأمـر أهـم مسألـة خصوصية فـي النظام السياسي والإداري المغربي.
وفي فترة الحماية ، شهد المغرب إصلاحات إدارية عميقة وفقا لمعاهدة الحماية على جميع المستويات ، فنال الحقل القانوني والإداري نصيبه من هذه الإصلاحات الجوهرية المهمة ، وبدأ العاملون في الإدارة الشريفة يتمتعون ببعض الامتيازات – ولو على المستوى النظري – على غرار زملائهم الموظفين العموميين الفرنسيين . وعرف المغرب حركة تشريعية مهمة في بداية هذه المرحلة ، حيث جاء ظهير الالتزامات والعقود بتاريخ 12غشت 1913 لينص لأول مرة في المغرب على مفهوم الموظف ، وذلك عند تأسيسه لأحكام مسؤولية الدولة والبلديات عن الأضرار الناتجة مباشرة عن تسيير مختلف إداراتها وعن الأخطاء المصلحية لأحد "موظفيها" أو مستخدميها بأن كان هذا الخطأ غير مطبوع بالطابع الشخصي "للموظف" (الفصل 79) ، أما إذا كان هذا الخطأ شخصيا فإن "الموظف" يكون هو المسؤول ولا تطالب الدولة بالتعويض إلا في حالة إعساره (الفصل80 ) . لكن هذا التوظيف لمفهوم الموظف العمومي كانت إشارة بسيطة لم ترق إلى مستوى تعريف هذا المفهوم ، وبعد الاستقلال شهد المغرب حركة تشريعية أخرى واسعة كان من بينها الظهير الشريف رقم 1.58.008 الصادر بتاريخ 24 فبراير 1958 بمثابة نظام أساسي عام للوظيفة العمومية .
وقد جاء في الفصل الثاني من هذا القانون ما يلي : " يعد موظفا كل شخص يعين في وظيفة قارة ويرسم في إحدى رتب السلم الخاص بأسلاك الإدارة التابعة للدولة" .
ونلاحظ أن هذا الفصل يخص فقط الموظفين المرتبين بأسلاك الإدارة التابعة للدولة ، لهذا جاء المرسوم 27 شتنبر 1977 المتعلق بالنظام الأساسي لموظفي الجماعات ليؤكد على نفس التعريف بالنسبة لهؤلاء الموظفين الجماعيين إذ ينص في فصله الأول على ما يلي : " يخول صفة موظف في الجماعة كل شخص يعين في منصب دائم ويرسم بإحدى درجات تسلسل أسلاك الجماعات" .
يظهر إذن من هذا التعريف أن المشرع المغربي يشترط ثلاثة عناصر أساسية باعتبار الشخص موظفا عموميا ، وهي :
1- التعيين في وظيفة عمومية : يشترط لكي يعد الشخص موظفا عموميا أن يعين في وظيفة عمومية من قبل السلطة التي تملك تعيينه قانونيا ، فالأشخاص الذين لم يصدر قرار أو ظهير بتعيينهم في وظيفة ما ، لا يعدون موظفين ولو أقحموا أنفسهم في الوظيفة .
2- دوام هذه الوظيفة : ويعني أن يمارس الشخص وظيفة عمومية بصفة قارة و ثابتة ، وبذلك لا يدخل في زمرة الموظفين العموميين الأعوان الذين يتم توظيفهم للقيام بأعمال استثنائية كالأعوان المؤقتين والمياومين والمتمرنين .
3- الترسيم : وهي الوضعية القارة التي يكتسبها الموظف بصفة نهائية بعد مدة معينة بموجبها يصبح الموظف رسميا في أسلاك الوظيفة العمومية .
وهكذا نلاحظ أن هذه العناصر الثلاثة المعروفة في القانون المقارن بصفة ضمنية وذلك عن طريق التأكيد على شغل الوظيفة ودوامها بالإضافة إلى عنصر العمل بمرفق عمومي معين ، فالوظيفة هنا هي وظيفة عمومية كما أن الموظف هو موظف عمومي ولو لم ترد كلمة عمومي أو عمومية في التعيين . إن عنصر التعيين من قبل سلطة مختصة هو العنصر الثاني المعروف في القانون الإداري المقارن وهو ضمني عن طريق تشغيل الشخص في الوظيفة ، أما العنصر الثالث و هو ديمومة الوظيفة فهو وارد بصراحة . أما عنصر الترسيم فيعتبر عنصرا إضافيا بتصنيف المشرع المغربي ، كما أن هذا العنصر غير مشترط في القانون الإداري المقارن .
بناء على ذلك فإن الفصل الثاني من ظهير 1958 أعطى للموظف العمومي تعريفا إداريا مهما لكونه يتميز بالدقة من حيث صياغته اللغوية ومن حيث مواكبته بل وتقدمه على مجموعة من القوانين المقارنة الأخرى بما فيها القانونين الفرنسي والمصري . فهو إذن ومقارنة بالتعريف الجنائي الذي يعتبر واسعا بشكل كبير ، يبدو بأنه قد حدد تعريفا ضيقا ومضبوطا للموظف العمومي ما دام قد عمل على تناول النقط الأساسية لاكتساب صفة موظف عمومي وهي التعيين ، شغل وظيفة قارة ، الترسيم ، والعمل في خدمة مرفق إداري تابع للدولة ، وبذلك فالمشرع المغربي حسم الأمر نهائيا في مسألة تجديد صفة الموظف العمومي ، وهو بذلك قد أغلق باب الاجتهاد نسبيا أمام الفقه والقضاء المغربيين .
ونشير إلى أن هناك بعض الموظفين العموميين الذين ينطبق عليهم تعريف الفصل الثاني من قانون الوظيفة العمومية قد استبعدهم القانون صراحة من تطبيق أحكام النظام العام للوظيفة العمومية ، وذلك وفقا لما نص عليه المشرع في الفصل الرابع من قانون الوظيفة العمومية فأخضعهم لنصوص قانونية خاصة بهم ، وهم : رجال القضاء ، العسكريون التابعون للقوات المسلحة الملكية ، ثم هيئة المتصرفين بوزارة الداخلية .
وهناك نوع ثالث من الأشخاص يخضعون لأحكام قانون الوظيفة العمومية بصفة أساسية ، وقد يعفون من بعض أحكامه بمقتضى قوانين أساسية خصوصية ، إذا كانت تلك الأحكام لا تتفق والالتزامات الملقاة على عاتق الهيئات والمصالح التي يعملون فيها . وهؤلاء الأشخاص كما جاء في نص الفقرة الثانية من الفصل الرابع هم : أعضاء السلك الدبلوماسي والقنصلي ، والهيئات المكلفة بالتفتيش العام للمالية ، ورجال التعليم، أعوان الشرطة وإدارة السجون ، ورجال المطافئ واعون المصلحة بإدارة الجمارك الغير المباشرة ، المفتشون والمراقبون والحراس بالبحرية التجارية ، وضباط الموانئ و موظفو المنارات وأخيرا موظفو المياه والغابات .
وتجدر الإشارة إلى أن الفصل السادس من قانون الوظيفة العمومية نص على مسألة في غاية الأهمية وهي : " إن التعيين في بعض المناصب العالية يقع من طرف جنابها الشريف باقتراح من الوزير المعني بالأمر" . وقد حدد بكيفية حصرية كل من ظهير 25 غشت 1971 وظهير 18 يوليوز 1978 المناصب العليا التي تبقى محفوظة للتعيينات الملكية مباشرة ، إضافة إلى نصوص أخرى خاصة تقضي صراحة بأن التعيين في منصب ما يتم بظهير شريف ، وتتصل هذه التعيينات بالخصوص بمجال الدفاع الوطني ومجال الأمن والداخلية ومجال التعليم والمجال الدبلوماسي . والقاعدة أن التعيين في المناصب السامية المشار إليها أعلاه قابل للرد جوهريا سواء كان الأمر يتعلق بموظفين أو غير موظفين ولا ينتج عن هذا التعيين في أي حال من الأحوال حق الترسيم في هذه الوظائف داخل أسلاك الإدارة التابعة للدولة