ضُرة .. أمها ..!!
مقالة للمغفور له بإذن الله .. د. يحيى الاحمدي
جاءتني ملتفحة بذيل الاستحياء لتقول لي مستهلة حديثها : هل صحيح يا دكتور أن المرأة تشعر بمشاعر " غيرة " من ابنتها إذا هي نضجت وتوجتها بشائر الأنوثة .. خصوصاً في الوقت الذي تكون الأم فيه قد بدأت تخطو أول خطواتها نحو تشييع أنوثتها إلى مثواها " قبل الأخير " ..؟! قلت لها متحفزا ً: مزيداً من التوضيح يا سيدتي؟ قالت بعدما أشعلت سيجارتها البنية الرفيعة الطويلة : " الحق أن ابنتي قد بلغت السادسة عشر منذ أيام .. والحق أيضاً أنها على قدر من النضج والأنوثة ظاهر وجلي وقدر من الثقافة لا بأس بها لمن هي في سنها .. غير أن سلوكياتها في المنزل على قدر كبير من التحرر .. سواء في ملابسها أو تعاملاتها معنا ..!! قلت لها بمكر"مهني" : وماذا في كل ذلك يدعو إلى غيرتك .. ؟! تابعت وقد بدأت علائم الخجل والارتباك تعلو وجهها بوضوح : نعم .. أنا معك في أن كل ذلك لا ينبغي أن يدعو لضيقي الذي أشعر وكأنه يكاد يخنقنى .. لكن المشكلة تتضح أكثر في تعاملاتها مع أبيها .. فهي تحبه فوق كل وصف .. وتلقاه عائداً وتودعه خارجاً وتتعامل معه طوال الوقت وكأنها تلقى وتودع حبيبا ً أو .. معشوقا ..!! أشعلت سيجارة أخرى ثم واصلت حديثها : " تصور أنها إذا طلب أبوها منى كوباً من الشاي .. سارعت هي إلى المطبخ وأعدته ثم قدمته له مصحوبا بموشح من الكلام المعسول المصحوب بنبرات أنثوية ممطوطة .. من عينة " عمايل أيديه وحياة عينيه " و" أحلى شاي لأحلى راجل ".. وشاي هندي م العين دى والعين دى "..!! بل أنها لا تنتظر حتى يطلب هو بل هي تسارع وقبل أن أفكر أنا بالقيام بلمسة رقيقة مع زوجي إلى تقديم كوب من الليمون المثلج " علشان يهدى أعصابه " .. وتسارع بالصحيفة اليومية إلى سريره قبل أن يفتح عينيه " مع قبلة على جبينه " .. بل وتتدخل في اختيار ملابس خروجه وألوانهاً التي يجب أن تكون " على ذوقها " كما تردد دوماً .. لتشيعه على باب المنزل وزجاجة العطر في يدها .. ثم لا تتوقف يداها عن الحركة الأرجوحية " باى .. باى " حتى يغيب عن ناظريها .. وتنتظر موعد عودته وهي تسألني كل لحظة عن الساعة .. و" هو بابا أتأخر كده ليه .." !! باختصار يا سيدى .. لقد جردتني هذه الملعونة من "مهامي" مع زوجي إلى حد كبير .. حتى شعرت أن وجودي في المنزل أصبح مثل عدمه .. وحتى اعتقدت أنها " ضُرتى " وليست ابنتي .. وحتى تصورت أنها تحاول اغاظتي بما تفعل .. وأنا " أغلي " في داخلي ولا أجرؤ أن أقول لها هذا أو بعضه ..
ثم واصلت : " الطامة الكبرى يا دكتور هي أن زوجي يستقبل كل تلك السلوكيات منها بسعادة غامرة .. ويتجاهل وجودي تماما !! فهو إذا اتصل تليفونياً من خارج المنزل تخرج هي من حجرتها مندفعة نحو السماعة لترد قبلي ليسألها السؤال اليومي المعتاد :" طابخين إيه النهاردة " .. رغم أنني أنا التي تطبخ وأنا التي تعد المائدة .. لتأتى هى وقد أعدت فقط طبقا ً من " السلاطة " تضعه أمامه وهى تقول : " ده أنا عاملاه لبابا لوحده " .. ثم تجلس أمامه وعينها لا تغادره و" رغيها " لا ينقطع : " بابا ما شربتش الشوربة .. الأكل مش عاجب بابا .. وكأنها هي " سيدة البيت " بينما أنا "جاريته " ..!! أما عن الهمس بينهما والذي يتوقف عند دخولي عليهما .. أما عن جلوسها على قدميه وهى تطوق عنقه بزراعيها وكأنها طفلة أو "معشوقة" .. أما عن إصرارها على الترديد أمامي بأنها لن تتزوج إلا " شبيه " أبيها .!! لقد حاولت أن الفت نظره - دون أن أحكى له عن غيرتي أو ضيقي حتى لا أسمع منه اتهاماً بأنني مجنونة .. وكيف يصل بي الأمر إلى حد الغيرة من ابنتنا - وحاولت أن أحادثه في شأن ضرورة القليل من القسوة على البنت .. التي نطمع أن تنجح في حياتها مستقبلاً دون دعم من أبيها وأمها .. لكنه دائما يقول بأن ابنته غالية عليه وأنه لن يزوجها إلا لمن يضعها في " نن " عينيه !! لقد ضقت بها وبه .. وجئتك لتقول لي كيف أنجو بنفسي من هذه الدوامة التي يضعاني فيها هو وابنته .. وكيف أتخلص من الشعور بـ "المهانة" الأنثوية وانحسار دوري مع زوجي واستبدالي بابنتي .. لقد أصبحت أكرهها كراهية لا حدود لها .. فهل عندك شيء تقوله لمثل حالتي ؟؟!! عندي الكثير بالطبع يا سيدتي .. عندي أنك تبالغين كثيراً في رؤية سلوكيات ابنتك مع أبيها بعين " الشعور بالنقص " لا بعين " الثقة بالنفس " .. وعندي أن مشاعرك
" الكارهة " نحو ابنتك ليست وليدة تصرفاتها مع أبيها .. بل أغلب الظن أنه قديمة من عمر طفولتها .. وإلا ما ارتمت في حضن التعلق بأبيها هذا التعلق " المرضى " هروباً من كراهيتك أو لنقل " قسوتك " عليها .. وعندي أنك أخطأت إذ طالبت الأب بأن يكون أكثر حزماً معها دون أن تفضي إليه بمشاعرك الحقيقية من الغيرة والشعور بتقلص الدور .. فذلك هو أقصر الطرق للفت انتباهه إلى خطورة سلوكياته على شريكة حياته التي يقدرها ويخاف عليها بالتأكيد .. حتى لو واجهك في البداية باتهام الجنون .. فإنه سرعان ما سيزن كل تصرف معها بميزان رضاك وتقبلك .. وعندى أنها لم تتعود - وهذا من سوء التربية - على الحدود التي يجب ألا تتخطاها في علاقة أبيها بأمها .. وأن عليها أن تستأذن قبل اقتحام " مساحة " الغير وأن تتراجع أمام صاحب الحق الأصيل في تلك المساحة .. وعندي أن حياتها فراغ مما يجب أن يملأ من في مثل عمرها من قراءة ونشاط اجتماعي وتعلم فنون وكمبيوتر مما يعينها على ملء فراغها بسلوكيات معتدلة ومرغوبة .. وعندي أنكما - في اعتقادي - من النوع المتزمت الذي يغلق كل الأبواب أمام صداقات ابنتهما مع أخريات فيضطراها إلى تفجير كل مكبوتها نحو "نقطة الضعف" الوحيدة المتاحة أمامها .. الأب الحنون " المستمتع " بتعلق أبنته به كنموذج "مثالي" في نظرها لعالم الرجال .. وعندي أنك يا سيدتي قد تركت ساحة زوجك " النفسية " فراغا ً منك .. فملأتها له ابنته .. فاسترد إحساسه بأن أمره يهم أحدا في بيته .. واستراح لهذا الوضع .. فعدت أنت لتستردى - بغريزة حب التملك - ساحته لنفسك حتى لو كنت ستتركينها فضاء .. مما يذكرنا بما يقوله بسطاء الناس بعفوية : " لا أنت ترحمين .. ولا تدعين رحمة الله تنزل "..!!
الخطأ يا سيدتي خطؤك أولاً وثانياً .. ثم خطأ هروب ضعيف من أول مواجهة محبطة تقابلك في علاقتك بزوجك ثالثاً .. ثم خطأ كراهية مريضة لواقع جميل كان يجب أن يكون مصدر سعادتك وهنائك رابعاً ..!! فلا تدعى - يا سيدتي - مشاعر إحساسك بفرار "حمائم" الشباب من بين يديك تسقط فوق رأس ابنتك " الشابة " حمماً من الغضب والكراهية والغيرة .. فـ " نوارس " الكهولة أكثر وقاراً .. ومن لا يجاري الزمن دهسته عجلاته .. واحمدى الله أن من ملأت فراغ زوجك الذي تركته هي أبنتك وليست امرأة أخري لا طاقة لك على استرداده منها إلا بشق الأنفس ..!! عودي إلى منزلك .. وسأنتظر لقائك المقبل .. وأنا واثق أنني سأسمع منك ما هو أفضل وأسعد مما سمعته اليوم .. وعذرا ً فإنني مضطر للانصراف الآن .. لأن "ابنتي" الجميلة وأمها .. في انتظاري ..!!.