إن
أعظم الكتب كتاب اللله تعالى القرآن وإن أعظم سورة في الكتاب هي سورة
الفاتحة ، وقد تدبر العلماء هذه السورة فاستخرجوا منها خزائن من العلم لا
تنفد ، واكتشفوا بها أسرارا عظيمة ليس لمنتهاها حد وألف في تدبرها وفهمها
الكتب : مدارج السالكين .. ، مثال على ذلك
الخصائص العامة لسورة الفاتحة : هذه السورة العظيمة تسمى فاتحة الكتاب لأنها أول سورة وعنوان مقاصده وسميت أم ألقرآن لاشتمالها على أمهات المعاني التي في القرآن
وتسمى أيضا سورة المثاني لأنها تثنى في كل صلاة
وهذه السورة فيها تقسيم بديع في الحديث التالي : عن
أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : قال الله تعالى :
(
قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد : الحمد
لله رب العالمين ، قال الله تعالى : حمدني عبدي ، وإذا قال : الرحمن
الرحيم ، قال الله تعالى : أثنى علي عبدي ، وإذا قال : مالك يوم الدين ،
قال : مجدني عبدي ، وقال مرة : فوض إلي عبدي ، فإذا قال : إياك نعبد وإياك
نستعين ، قال : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ، فإذا قال : اهدنا
الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ، غير المغضوب عليهم ولا الضالين
، قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ) وفي رواية :
( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فنصفها لي ونصفها لعبدي ) .
لحديث رواه الإمام
مسلم وأصحاب السنن الأربعة
هذا
الحديث يبين فضل سورة الفاتحة ومنزلتها من الدين ، ولذا قال بعض السلف
مبينا ما لهذه السورة من شأن عظيم عند الله : " أنزل الله عز وجل مائةً
وأربعة كتب ، جمع علمها في أربعة وهي : التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ،
وجمع علم الأربعة في القرآن ، وعلم القرآن في المفصَّل ، وعلم المفصَّل في
الفاتحة ، وعلم الفاتحة في قوله :
{إياك نعبد وإياك نستعين }(الفاتحة 5) .
فقوله في الحديث :
( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي ) يعني
الفاتحة ، وسميت صلاة لأن الصلاة لا تصح إلا بها ، كقوله - صلى الله عليه
وسلم - الحج عرفة ، فبين الحديث أن الله عز وجل قد قسم هذه السورة العظيمة
بينه وبين عبده نصفين ، فهو سبحانه له نصف الحمد والثناء والتمجيد ، والعبد
له نصف الدعاء والطلب والمسألة ، فإن نصفها الأول من قوله سبحانه :
{ الحمد لله رب العالمين } إلى قوله:
{ إياك نعبد} تحميد لله تعالى ، وتمجيد له ، وثناء عليه ، وتفويض للأمر إليه ، ونصفها الثاني من قوله تعالى :
{ وإياك نستعين} إلى آخر السورة ، سؤال وطلب وتضرع وافتقار إلى الله ، ولهذا قال سبحانه بعد قوله {
إياك نعبد وإياك نستعين }وهذه بيني وبين عبدي .
الفاتحة
بالنسبة للقرآن هي المقدمة والقرآن شارح لها فيها تلخيص لأعظم المقاصد
واشتملت على كل العقائد : اشتملت على التعريف بالمعبود تبارك وتعالى بثلاثة
أسماء مرجع الأسماءوالصفات العلا إليها ومدارها عليها :
ألله _ا
لرب _
الرحمن وبنيت
السورة على الالهية والربوبية والرحمة وتضمنت الرد على جميع طوائف البدع
والضلال وتضمنت أيضا إشارة إل منازل السائرين ومقامات العارفين
هذه السورة لا يقوم غيرها مقامها ولا يسد مسدها ولذلك لم ينزل في التوراة ولا في الانجيل ولا في أي كتاب مثلها
ومما
يؤكد أهمية هذه السورة العظيمة ما ثبت لها من الفضائل والخصائص التي صحت
بها الأخبار منها أن الصلاة لا تصح إلا بها ، ولهذا سماها الله صلاة كما في
حديث الباب ، ومنها أنها أعظم سورة في القرآن ففي
البخاري من حديث
أبي سعيد بن المعلى قال :
(
كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم أجبه ،
فقلت : يا رسول الله ، إني كنت أصلي ، فقال : ألم يقل الله : {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم }(لأنفال
24) ، ثم قال لي : لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من
المسجد ، ثم أخذ بيدي ، فلما أراد أن يخرج قلت له : ألم تقل لأعلمنك سورة
هي أعظم سورة في القرآن ؟ قال : { الحمد لله رب العالمين } هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته) .
والفاتحة نور فتح لها باب من السماء لم يفتح من قبل ، ونزل بها ملك لم
ينزل قط ، واختص بها نبينا - صلى الله عليه وسلم - دون سائر الأنبياء ،
ووُعِد بإعطاء ما احتوت عليه من المعاني ، فعن
ابن عباس رضي
الله عنهما قال : بينما جبريل قاعد عند النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع
نقيضا من فوقه - أي صوتاً كصوت الباب إذا فتح - فرفع رأسه فقال :
(
هذا باب من السماء فتح اليوم ، لم يفتح قط إلا اليوم ، فنزل منه ملَك فقال
: هذا ملَك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم ، فسلَّم وقال : أبشر
بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك ، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة ،
لن تقرأ بحرف منهما إلا أُعْطِيتَه ) رواه
مسلم .
ذكر الله عز وجل فيها
الحمد : وهو أكمل أنواع العبادة
وذكر الله عز وجل
اسمه وأشملها لمعاني الاسماء الاخرى وذكر
ربوبيته للعالمين وهي أعظم أدلة قدرته وعلمه وكماله واستحقاقه للافراد بالعبودية
وذكر
رحمته وهي أقوى متعلق للعبد وأكثر ما يحتاجه وهنا سطرت أعظم حقوق الله وأكبر حظوظ العبد
وذكر سبحانه
ملكه ليوم الدين وهو أعظم الايام ويوم تزول كل الملكيات المزيفة ولا يبقى إلا ملك الواحد القهار : لمن الملك اليوم ؟ لله الواحد القهار
وخصص
الله عز وجل في نهاية السورة أهل الصراط المستقيم بالنعمة المطلقة مما يدل
على أن النعمة المطلقة هي الموجبة للفلاح الدائم وهي لزوم الصراط المستقيم
، وأما مطلق النعمة فعلى المؤمن والكافر
نستخلص
منها أيضا تلازم العبادة مع الاستعانة : فلا نعبد إلا من نستعين به ولا
نستعين إلا بمن أحق بالعبدة والاجلال فهو الله والرب والرحمن
وكانت الفاتحة أيضا : أم الشفاء من أدواء الاجساد ومن أدواء القلوب أما أدواء الاجساد فيكفينا الحديث :
عن
أبي سعيد رضي
الله عنه : أن ناساً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أتوا على حي
من أحياء العرب فلم يُقْرُوهُم - أي يضيفوهم ويطعموهم - فبينما هم كذلك إذ
لدغ سيد أولئك ، فقالوا : هل معكم من دواء أو راق ، فقالوا : إنكم لم
تُقْرُونا ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جُعلاً ، فجعلوا لهم قطيعاً من الشاء ،
فجعل يقرأ بأم القرآن ويجمع بزاقه ويتفل ، فبرأ ، فأَتَوا بالشاء ، فقالوا :
لا نأخذه حتى نسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فسألوه ، فضحك وقال :
( وما أدراك أنها رقية ، خذوها واضربوا لي بسهم ) رواه
البخاري
وأما أدواء القلوب فمدارها على أحد أمرين :
فساد العلم = داء الضلال فكان النصارى أكبر مثال على ذلك وكل من نحى نحوهم
فساد
القصد =داء الغضب وكانت الامة التي استحقت غضب المولى تبارك وتعالى لانهم
عرفوه وعلموا ما هو أهل له فكانت أهواؤهم قصدهم هذا لهم ولمن عمل عملهم
والعياذ بالله
مما يدل على شرفها كثرة أسمائها ، فإن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمَّى ، وقد ذكر الإمام
السيوطي رحمه
الله في كتابه الإتقان أنه وقف لها على ما يزيد عن عشرين اسماً ، فمن
أسمائها : فاتحة الكتاب ، وأم القرآن ، والسبع المثاني ، والقرآن العظيم ،
والصلاة ، وغيرها .
ختمت السورة بالدعاء بأهم ما يحتاجه العبد في دينه
ودنياه ، فإن حاجة العبد إلى أن يهديه الله الصراط المستقيم ، أعظم من
حاجته إلى الطعام والشراب والنَّفَس ، فهو مضطر إلى مقصود هذا الدعاء ، ولا
نجاة من العذاب ولا وصول إلى السعادة إلا بهذه الهداية ، قال الإمام
ابن تيمية عن
دعاء الفاتحة : " وهو أجل مطلوب ، وأعظم مسؤول ، ولو عرف الداعي قدر هذا
السؤال لجعله هجيراه - يعني ديدنه - ، وقرنه بأنفاسه ، فإنه لم يدع شيئاً
من خير الدنيا والآخرة إلا تضمنه " .
يكشف لنا ن أسرار اختيار الله لهذه
السورة ليرددها المؤمن سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة أو ما شاء الله له أن
يرددها ، كلما قام يدعوه ربه ويناجيه في صلاته
تم بحول الله ولقد رغبت أن تكون عوتنا لهذه الواحة فاتحة خير بتأملنا وتدبرنا لأعظم سورة في القرآن سورة الفاتح