الرجل والقيادة ..!!
مقالة للمغفور له د. يحيى الأحمدي رحمة الله عليه
كنت هناك فى البيت الحرام منذ أسابيع - مع الطائفين والعاكفين والركع السجود - أغسل أدران ذنوبى بماء بكائى ، وأرفع أكف التذلل لله بالدعاء حول الكعبة المشرفة ، أطوف حول البيت العتيق خشوعاً ، وأسعى بين الصفا والمروة تضرعا ً .. أقف بين يدى الله أأمن وراء دعاء الإمام علنى ألقى ساعة اجابة .. أهيم فى عبق الروحانيات التى تشمل كل من تنسم هواء البلد الحرام .. إلى أن أدركتنى شقوة من شقوات الدنيا ، فانتبهت إلى أن بيننا وبين صلاة الفجر بضع ساعة .. فقمت من مكانى ميمماً باب الخروج إلى حيث أجد بضع لقيمات تعيننى على صيام الغد .. تزاحمنى أفواج الساعين مثلى لسحورهم بالمناكب والإقدام .. وأنا أتعفف عن المزاحمة مستعيناً بما أنا عليه من روحانية أظن أن بعضها غائب عن بعض زملاء التزاحم .. إلى أن خرجت إلى الشارع المواجه لباب الفتح .. حيث كان لى موعد مع صديق لى منذ بعد العشاء ، لكن الزحام الرهيب فى تلك الليلة حال بينى وبين أن أصدق موعده .. فاشتريت طعاماً خفيفاً وعلبة من العصير وزجاجة من الماء .. وجلست أتناولها على الرصيف المؤدى إلى سلالم ساحة المسجد أمام باب الفتح مباشرة علنى أرى صديقي وهو يدخل إلى المسجد عتد صلاة الفجر .. لكن ما دار من حديثه ساخن بين رجل وامرأته بالقرب من مجلسى -على الرصيف- ألهانى عن متابعة وجوه الداخلين إلى المسجد .!!
أغلب الظن أن الحديث بينهما كان متعلقاً بما سيشترونه لأهليهم من هدايا مكة المباركة : المسابح والمصليات والعبايات والجلاليب ولعب الأطفال وبعض الحلى .. هى كانت تقول له : " لا دخل لى بما تبقى معك من مال .. لا بد أن تشترى هدايا قيمة لأمى وأخواتى وأولاد أخى .!! وهو يكاد يبكى وهو يقول لها بأن نقوده كادت أن تنفذ .. ولم بيق معه إلا ما يكفى مؤونة المعيشة حتى العودة إلى بلدهما .!! هى تتلوى يمنة ويسرة كأنها الحيلة الرقطاء وتقول له من بين أنيابها : " ما ليش دعوة .. روح رجّع الحاجات التى اشتريتها لنفسك أو لأهلك واشتري اللى قلت لك عليه وإلا .. والله العظيم ما أنا راجعة معاك .. التذكرة وجواز السفر فى جيبى .. وأنا أعرف طريق بلدنا كويس .. فاهم والا لأ .!!
تصوروا ماذا قال لها هذا الرجل المغلوب على أمره رداً على قولها ؟؟ لقد قال لها بكل انكسار : " يعنى عايزانى أمسك منديل فى يدى وأتسول من المعتمرين بعض النقود علشان أشترى لك اللى أنت عايزاه لأهلك .. ياحاجة حرام عليك ده احنا فى بلاد غربة وما تفرجيش الناس علينا .!! والمرأة على حالها من التبرم والتلوى لم تتغير .. بل ربما ازدادت حدة عندما قالت له بملء فيها غباء : " والله لو ما كنتش قادر تعمل عمرة وتشترى الهدايا للناس وللحبايب .. ايه اللي كان جابك أصلاً .؟!
أغثت - من موقعى على البعد القريب - نظرات الرجل الملهوفة لأحد يستنقذه من براثنها .. وأشرت له بيدى اشارات تعنى أن يهدأ .. وأن يطوّل باله عليها .. لعل الله يجعل له من بعد عسر معها فرجا .. بينما هو - متشجعا ً بتأييدى الصامت لموقفه - يخبط كفا بكف ولا يزيد عن قوله بصوت عال .. بمرارة وغيظ معاً : " حسبنا الله ونعم الوكيل .. حسبنا الله ونعم الوكيل .!! " . ولما التفتت المرأة ناحيتى فجأة وأدركت أننى اتابع الموقف بتفاصيله .. قامت من مجلسها وهى تقول له بلؤم فظيع : " والله أنا مش عارفة مين اللى بيفرج الناس علينا .. على العموم أنا داخلة المسجد .. وما تدوّرش على إلا لما تشترى اللى قلت لك عليه .. فاهم .؟! " وانصرفت لا تلوى على شئ .. تاركة رجلها - القوّام عليها - فى خجل وحيرة شديدين .. متجهة نحو باب المسجد لتصلى لله فى بيته الحرام في بلده الحرام .. صلاة الفجر المشهود .. بينما زوجها غاضب عليها ويشكوها لله جهاراً .!!
اقترب الرجل من مجلسي بعد أن غابت هي فى زحام الداخلين .. وجلس إلى جانبى تكاد الدموع تطفر من عينيه .. ثم رفع وجهه للسماء وقال أمامى كلمة أحسب أنها اخترقت عنان السماء : " يارب .. أنت قوى على كل قوى يارب .!! ". لم يكن لدى شئ اقوله للرجل سوى ما يقوله من يعزى أخاً له فى مصيبة أو يواسى جاراً فى بلية .. فصمت ولم أتكلم .. بل واستعجلت فى نفسى أذان الفجر كى أقوم عنه بلا حرج وليس مهيمناً على فكرى وروحى فى تلك اللحظة إلا مرارة ذلك الظلم البين الذى يوقعه الأضعف على الأقوى .. ومرارة ذلك العجز الذى يعانيه الأقوى عندما لا يستطيع أن يقاوم سطوة وقوة الأضعف .. مرارة كدت أن أشعر بها فى حلقى رغم طعم العصير " الحلو " الذى لم أكن قد انتهيت من شربه بعد .!!
وأنا عائد فى الطائرة من مطار جدة جاءت جلستى الى جوار سيدة مسنة من النوع الذى تروقنى حكمته فى القول برحيق الخبرة المتراكمة .. فتحرشت بلسانها أستحثه على محادثتى وسألتها : هل تعرفين يا أمى أننى في غاية الحيرة فى أمر المرأة التى تتطاول على زوجها وتنهره وتتعالى عليه أمام الناس وتكلفه ما لاطاقة له به .. رغم أن دينها يأمرها بغير ذلك ورغم ادعائها التدين .!! فلما صمتت ولم ترد أيقنت أن فصاحتى لم تسعفنى معها .. فرحت أحكى لها - وهى تعطينى انتباهاً يتزايد مع الوقت - حكاية الرجل والمرأة التى لاقيتهما بمكة .. فلما انتهيت من روايتى قالت لى وبعد أن انتهت من تناول وجبة الطعام : لا .. لا يا ولدى .. المرأة خلقت بالفطرة كى يقودها الرجل .. ويأمرها الرجل .. ويمسك بلجامها الرجل .. لكن " نوع " الرجل الذى تسلم له زمامها هو محل الخلاف .!! فليس كل رجل تراه " يملأ عينك " هو رجل فى نظر امرأته .. فما أكثر الرجال الضعفاء أمام رغباتهم وشهواتهم ومطالبهم وأحداث الحياة .. والمرأة التى تشهد ضعف الرجل فى كل حين لاتقوى على اكراه نفسها أن تنقاد له لمجرد أنه رجلها .. وهى تتمنى لو أن زوجها من القوة بحيث تزف إليه ضعفها راضية مستبشرة .. لكنه مادام قد خيب ظنها فى قوته ورجولته .. فلا ينصرها عندما يجور عليها أحد .. ولا يغيثها عندما تفتلها اللهفة .. ولا يحلو له أن يطرح ضعفه وخوفه وهوانه من الناس والحياة إلا أمام عينيها وتحت بصرها .. فكيف لها أن تغالط نفسها وتمنحه قوة عليها هى أدرى الناس بأنه ليس أهلاً لها .. وكيف تطيل هامته عليها وهى ترى قزامته أمامها فى كل آن وحين .؟! ان ربك لا يظلم أحدا ً يابنى .. والرجل الذى " تركبه " امرأته مطية وتشبعه ضرباً يستحق ذلك وأكثر ولا يجب أن ينال منك أو منى شفقة أو عطفاً .. بل امرأته هى التى تستحق تلك الشفقة وذاك العطف فهى المنكوبة فى خيبة رجلها الذى تزوجته ليكون عوناً لها على الدهر فإذا به " خيال مآته " فى حياتها .. غيابه كحضوره .. ترى الرجال من حولها رجالاً بحق بينما هو على ما هو عليه من إستكانة وجبن وضعف .. فكيف تطلب منها أن تحسن التبعل لمن لا يجسن الهيمنة عليها والحماية لها .؟! انها مشكلة كل النساء يا ولدى اللواتى أصابتهن مصيبة الزوج الـ " أسد علىّ وفى الحروب نعامة " .. ولا تملك أن تهجره بعد أن جاء منها بالعيال قبل أن تكتشف خبيئته وليس أمامها إلا أن تنفس عن مصيبتها معه .. وهو بالتأكيد قانع تماما بحقها فى ذلك التنفيس .. أما شكواه التى تراها أو تسمعها فهى لحظات ضيق مؤقت لا تستمر .. ولو تدرى فإن ضيقه الحقيقى الذى راحة له منه هو فى أن تتركه هي دون أن تتعالى عليه وتقوى .. فهو بضعفه معها " يستلذ " ذلك منها .. فاتركهما يا ولدى ودع الخلق للخالق .. وعمرة مقبولة ان شاء الله ..!!
سامحك الله يا حاجة .. وسامح ذلك القائل يوماً بأن القيادة فى الحياة الزوجية .. رجل .!