التفسير الموضوعي لقصة يونس عليه السلام:
قال تعالى : { فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا
إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ
عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ
(98) } (سورة يونس).
معاني المفردات
والقرية : القوم ، والتسمية هكذا إيذان بأن الرسالات كانت في قرى الحضر ولم تكن في محلات البدو - ولا يفصل السياق هنا قصة ي
ونس وقومه ، إنما يشير إلى خاتمتها هذه الإشارة؛ لأن الخاتمة وحدها هي المقصودة هنا.
والمرسل إليهم : اليهود القاطنون في نينوَى في أسر الأشوريين .
والكشف : إزالة ما هو ساتر لشيء .
والخزي : الإهانة والذل .
قال تعالى : { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ
نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا
أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا
لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ
(88)} ( سورة الانبياء).
معاني المفردات
(نَّقْدِرَ عَلَيْهِ) بمعنى نضيق عليه ونعاقبه.
ذا النون : والنون الحوت ويجمع على نينان وأنوان أيضاً.
نقدر عليه : بمعنى نضيق عليه ونعاقبه .
الظلمات : أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت جعلت الظلمة
لشدتها كأنها ظلمات ، أو الجمع على ظاهره والمراد ظلمة بطن الحوت وظلمة
البحر وظلمة الليل .
الغم : أي الذي ناله حين التقمه الحوت بأن قذفه إلى الساحل بعد ساعات .
قال تعالى : { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ
إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
(141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ
كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ
يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145)
وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ
إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ
إِلَى حِينٍ (148)} (سورة الصافات).
معاني المفردات
أبَقَ :
مصْدره إِباق بكسر الهمزة وتخفيف الباء وهو فرار العبد من السيد لكن لما
كان هربه من قومه بغير اذن ربه كما هو الأنسب بحال الأنبياء عليهم السلام
حسن اطلاقه عليه
و الفُلك المشحون : المملوء بالراكبين ، وتقدم معناه في قصة نوح .
وساهم : قَارع ، وأصله مشتق من اسم السَّهم لأنهم كانوا يقترعون بالسهام وهي أعواد النبال وتُسمّى الأزلام .
الْمُدْحَضِينَ : فصار من المغلوبين بالقرعة ، وأصله المزلق اسم مفعول عن مقام الظفر.
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ : أي ابتلعه من اللقمة
وَهُوَ مُلِيمٌ : والمليم هو ذو الملامة ومن كان كذلك فهو مذنب فأما الملوم فهو الذي يلام، استحق ذلك أو لم يستحق.
وقيل: المليم المعيب. يقال لام الرجل إذا عمل شيئا فصار معيبا بذلك العمل.
لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ : لبقي في بطنه حياً إلى يوم البعث .
فَنَبَذْنَاهُ : والنبذ : الطرح والترك .
بِالْعَرَاء :ِ والعراء ممدوداً : الفضاء من الأرض الذي لا نبات فيه ولا بناء .
وَهُوَ سَقِيمٌ : وَهُوَ سَقِيمٌ قيل المراد أنه بلي لحمه وصار ضعيفاً
كالطفل المولود، أو كالفرخ الممعط الذي ليس عليه ريش. وقال مجاهد سقيم أي
سليب .
شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ : وهو القرع . يظلله بورقه العريض ويمنع عنه الذباب الذي يقال إنه لا يقرب هذه الشجرة .
فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ : والتمتيع : الإمهال بالحياة الى آجالهم المسماة في الازل.
قال تعالى :{ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ
إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ
مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ
رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)} (سورة القلم),
معاني المفردات:
صاحب الحوت: هو يونس عليه السلام كما أنه المراد من ذي النون إلا أنه فرق
بين ذي وصاحب بأن أبلغ من صاحب قال ابن حجر لاقتضائها تعظيم المضاف إليها
والموصوف بها بخلافه ومن ثم قال سبحانه في معرض مدح يونس عليه السلام (وذا
النون).
والمذموم : إمّا بمعنى المذنب لأن الذنب يقتضي الذمَّ في العاجل والعقاب في الآجل .
المكظوم : مكظوماً ، أي محبوساً في بطن الحوت أبداً.
وخلاصة القصة:
وكانت من قصة هؤلاء القوم على ما روي عن غير واحد أن يونس عليه السلام بعث
إلى أهل نينوى من أرض الموصل وكانوا أهل كفر وشرك فدعاهم إلى الإيمان
بالله تعالى وحده وترك ما يعبدون من الأصنام فأبوا عليه وكذبوه فأخبرهم أن
العذاب مصبحهم إلى ثلاث فلما كانت الليلة الثالثة ذهب عنهم من جوف الليل
فلما أصبحوا تغشاهم العذاب فكان فوق رؤوسهم ليس بينهم وبينه إلا قدر ثلثي
ميل ، وجاء أنه غامت السماء غيما أسود هائلاً يدخن دخاناً شديداً فهبط حتى
غشى مدينتهم واسودت ساحتهم فلما أيقنوا بالهلاك طلبوا نبيهم فلم يجدوه
فخرجوا إلى الصحراء بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم ولبسوا المسوح
وأظهروا الإيمان والتوبة وفرقوا بين الوالدة وولدها من الناس والدواب فحن
البعض إلى البعض وعلت الأصوات وعجوا جميعا وتضرعوا إليه تعالى وأخلصوا
النية فرحمهم ربهم واستجاب دعاءهم وكشف عنهم ما نزل بهم من العذاب وكان ذلك
يوم عاشوراء وكان يوم الجمعة .
قال ابن مسعود : إنه بلغ من توبتهم أن
ترادوا المظالم فيما بينهم حتى إن كان الرجل ليأتي إلى الحجر قد وضع أساس
بنيانه عليه فيقعله ويرده إلى صاحبه ، وجاء في رواية عن قتادة أنهم عجوا
إلى الله تعالى أربعين صباحاً حتى كشف ما نزل بهم ، وأخرج أحمد في كتاب
الزهد .وابن جريرفي التفسير . وغيرهم عن ابن غيلان قال : لما غشي قوم يونس
العذاب مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا : ما ترى؟ قال : قولوا : يا حي
حين لا حي ويا حي محيي الموتى ويا حي لا إله إلا أنت فقالوها فكشف عنهم
العذاب ، وقال الفضيل بن عياض : قالوا : اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت
أعظم وأجل فافعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله ، وكان يونس
عليه السلام إذ ذهب عنهم قعد في الطريق يسأل الخبر كما جاء مرفوعاً فمر به
رجل فقال له : ما فعل قوم يونس؟ فحدثه بما صنعوا فقال : لا أرجع إلى قوم قد
كذَبْتهم وانطلق مغاضباً حسبما قصه الله تعالى في غير هذا الموضع مما
سيأتي إن شاء الله تعالى ، وظاهر الآية يستدعي أن القوم شاهدوا العذاب
لمكان { كَشَفْنَا } وهو الذي يقتضيه أكثر الإخبار وإليه ذهب كثير من
المفسرين ، ونفع الإيمان لهم بعد المشاهدة من خصوصياتهم فإن إيمان الكفار
بعد مشاهدة ما وعدوا به إيمان بأس غير نافع لارتفاع التكليف حينئذٍ وعادة
الله إهلاكهم من غير إمهال كما أهلك فرعون .
اللطائف القرآنية:
1- يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: في هذه القصة تنبيه للدعاة وتحذيرهم
من ترك الدعوه لعدم استجابة الناس وأقرب ما يحضرني للتمثيل لهذه الحالة
جهاز الاستقبال عند البحث عن محطة إرسال . . إنك لتحرك المشير مرات كثيرة
ذهاباً وإياباً فتخطئ المحطة وأنت تدقق وتصوب . ثم إذا حركة عابرة من يدك .
فتتصل الموجة وتنطلق الأصداء والأنغام!
إن القلب البشري هو أقرب ما
يكون إلى جهاز الاستقبال . وأصحاب الدعوات لا بد ان يحاولوا تحريك المشير
ليتلقى القلب من وراء الأفق . ولمسة واحدة بعد الف لمسة قد تصله بمصدر
الإرسال!
2- وتنكير { نعمة } للتعظيم لأنها نعمة مضاعفة مكررة .
3- فِعل { أبَق } هنا استعارة تمثيلية ، شبّهت حالة خروجه من البلد الذي
كلّفه ربه فيه بالرسالة تباعداً من كلفة ربه بإباق العبد من سيده الذي
كلّفه عملاً .
4- والالتقام : البلْع . والحوت الذي التقمه : حوتٌ
عظيم يبتلع الأشياء ولا يعضّ بأسنانه ويقال : إنه الحوت الذي يسمّى (
بَالَيْن ) بالافرنجية .
5- أنبت الله تعالى شجرة اليقطين ليونس مطلة
عليه لأنها تجمع خصالاً برد الظل والملمس وعظم الورق وأن الذباب لا يقع
عليها على ما قيل ، وكان عليه السلام لرقة جلده بمكثه في بطن الحوت يؤذيه
الذباب ومماسة ما فيه خشونة ويؤلمه حر الشمس ويستطيب بارد الظل فلطف الله
تعالى به بذلك ، وذكر أن ورق القرع أنفع شيء لمن ينسلخ جلده
الدروس المستفادة:
إن في قصة يونس عليه السلام لفتات ولمسات نقف أمامها لحظات .
1- كيفية نجاة يونس من بطن الحوت بسبب الابتلاءات الأخرى بعد توبته كأنها
ترسم صورة في النفس الإنسانية المؤمنة قائلة له إن من محبة الله لك بعد
التوبة أن يبتليك من باب تخفيف الذنوب ومضاعفة الحسنات ، وأما الداعية فهي
تتجسد له على صورة سلم في السماء كلما نجا من بلاء زاد رفعة ومكانه .
2- وأصحاب الدعوات لا بد أن يحتملوا بتكاليفها ، وأن يصبروا على التكذيب
بها ، والإيذاء من أجلها . وتكذيب الصادق الواثق مرير على النفس حقاً .
ولكنه بعض تكاليف الرسالة . فلا بد لمن يكلفون حمل الدعوات أن يصبروا
ويحتملوا ، ولا بد أن يثابروا ويثبتوا . ولا بد أن يكرروا الدعوة ويبدئوا
فيها ويعيدوا . ظ
3- إنهم لا يجوز لهم أن ييأسوا من صلاح النفوس
واستجابة القلوب ، مهما واجهوا من إنكار وتكذيب ، ومن عتو وجحود . فإذا
كانت المرة المائة لم تصل إلى القلوب ، فقد تصل المرة الواحدة بعد المائة .
وقد تصل المرة الواحدة بعد الألف . . ولو صبروا هذه المرة وحاولوا ولم يقنطوا لتفتحت لهم أرصاد القلوب!
4- إن طريق الدعوات ليس هيناً ليناً . واستجابة النفوس للدعوات ليست
قريبة يسيرة . فهناك ركام من الباطل والضلال والتقاليد والعادات ، والنظم
والأوضاع ، يجثم على القلوب . ولا بد من إزالة هذا الركام . ولا بد من
استحياء القلوب بكل وسيلة . ولا بد من لمس جميع المراكز الحساسة . ومن
محاولة العثور على العصب الموصل . . وإحدى اللمسات ستصادف مع المثابرة
والصبر والرجاء . ولمسة واحدة قد تحول الكائن البشري تحويلاً تاماً في لحظة
متى أصابت اللمسة موضعها . وإن الإنسان ليدهش أحياناً وهو يحاول ألف
محاولة ، ثم إذا لمسة عابرة تصيب موضعها في الجهاز البشري فينتفض كله بأيسر
مجهود ، وقد أعيا من قبل على كل الجهود! فالدعوة باقية ولا يضرها من هجران
المكذبين المعارضين لها.
5- إن الدعوة هي الأصل لا شخص الداعية!
فليضق صدره . ولكن ليكظم ويمض . وخير له أن يصبر فلا يضيق صدره بما يقولون!
إن الداعية أداة في يد القدرة . والله أرعى لدعوته وأحفظ . فليؤد هو واجبه
في كل ظرف ، وفي كل جو ، والبقية على الله . والهدى هدى الله .
6- وإن في قصة ذي النون لدرساً لأصحاب الدعوات ينبغي لهم أن يتأملوه .
7- وإن في رجعة ذي النون إلى ربه واعترافه بظلمه لعبرة لأصحاب الدعوات ينبغي أن يتدبروها .
8- وإن رحمة الله لذي النون واستجابة دعائه المنيب في الظلمات لبشرى للمؤمنين : ( كذلك ننجي المؤمنين ) . .
9- ترك عقوبة الله لقوم يونس العذاب بعدما تابوا يذمرنا بحديث رسول الله ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر )
10- خروج قوم يونس للعراء تائبين وقد لبسوا المسوح و إخراج الأطفال
والنساء والصبيان والتفريق بين المرأة ووليدها والجهر بالبكاء والتضرع
ليزرع في النفوس كيف تكون التوبة وبالأخص عند صلاة الاستسقاء