بسم الله الرحمن الرحيم
القانون الدولي والقانون الإسلامي
المقدمة
عاد الاهتمام بالإسلام يتزايد باعتباره ظاهرة سياسية واسعة . فمنذ نهاية عقد السبعينات ، أحرز الإسلام السياسي انتصاراً كبيراً في تأسيس أول حكومة إسلامية ، في إيران . ومنذ عام 1979 ، وبقية الدول الإسلامية في مواجهة متزايدة مع الحركات الإسلامية الراغبة بتأسيس دول جديدة تعتمد كلياً على أحكام الشريعة الإسلامية ، وإلغاء الأنظمة العلمانية التي تحكم المجتمعات الإسلامية منذ نشوء الدول القومية ، بعد عصر الاستعمار .
والدولة الإسلامية ، كغيرها من الكيانات السياسية ، تقيم علاقات خارجية ، تنضم إلى المنظمات الدولية ، وتلتزم بالقانون الدولي والمبادئ العامة كمعايير تنظم علاقاتها مع الآخرين . فقد عاد من المستحيل ، في العالم المعاصر ، الانعزال عن الاتصالات الخارجية ، سياسياً واقتصادياً .وحتى أولئك الذين يبدون عداءً للغرب أو غير المسلمين ، إذا ما وصلوا للسلطة ، سيجدون أنفسهم مجبرين على إقامة علاقات خارجية ، وعقد معاهدات وإتفاقيات مع الدول غير الإسلامية . إن إدارة الدولة لا يمكنها أن تعتمد على الشعارات الثورية أو الأفكار المجردة ، ولا حتى على الحماس الديني ، بل بالتعامل بواقعية مع مفردات العصر ومتطلبات المجتمع الذي تدير شؤونه .
منذ عقد الثلاثينات في هذا القرن ، بدأت الدول الإسلامية في الانضمام إلى المنظمات الدولية; في البداية عصبة الأمم ، ثم منظمة الأمم المتحدة ووكالاتها . إن مشاركة الدول الإسلامية في النظام العالمي يمكن اعتباره ظاهرة رائعة في التاريخ الحديث للدول الإسلامية . هذه الظاهرة لها جذور تاريخية عندما كان العالم الإسلامي يقيم علاقات وثيقة مع الغرب منذ القرون الوسطى . وامتدت تلك العلاقات على مدى قرون طويلة ، وتضمنت أشكالاً وأبعاداً مختلفة . لقد أثر كل طرف بالآخر في كل المجالات والنشاطات بين الدول ، في السياسة والاقتصاد والثقافة والقانون والعلم . فكان هناك تأثير متبادل بين الطرفين .
وقد جهد فقهاء القانون أنفسهم في محاولة تقريب وجهات النظر الفقهية والقانونية بين العقل الغربي والواقع الاسلامي المتمثل بالنظم والحكومات الاسلامية وعطاء المفكرين والفلاسفة المسلمين فهل وفقوا في ذلك؟ هذا هو جوهر موضوع هذه الرسالة.
الفصل الأول
يعرض لمحة تاريخية عن العلاقات بين العالم الإسلامي والغرب ، باعتبارها مدخلاً للدراسة ، من أجل متابعة تطور مختلف العلاقات بين الجانبين . سأحاول أن أسلط الضوء على أهم الأحداث والاتفاقيات الهامة التي يمكن اعتبارها منعطفات رئيسة في العلاقات الثنائية . إذ يبدو من المهم مناقشة تطور العلاقات في إطار محيطها التاريخي ، للتعرف على بدايات تأثير الغرب على القانون الدولي الإسلامي.
الفصل الثاني
فيتطرق إلى المواجهة العسكرية ـ الاستعمار ـ بين الحضارتين : الإسلامية والغربية . وسأناقش كيف واجهت المؤسسات الدينية القوات العسكرية الغربية التي احتلت الأراضي الإسلامية . فمن المعروف أن القيادات الدينية لعبت دوراً هاماً في الكفاح أو ال ضد الحكومات الاستعمارية . وعلى سبيل المثال ، قمت بإختيار أربعة بلدان إسلامية ، بلدين سنية المذهب وهي مصر والهند ، وبلدين شيعية هي العراق وإيران . وسيتركز الحديث والنقاش حول الثورات المحلية التي حدثت في تلك البلدان ، والتي كانت رد فعل مباشراً للاستعمار أو الحضور الأجنبي المهيمن على البلدان الإسلامية . أما الأحداث والثورات الأخرى فهي خارج نطاق هذه الدراسة . ويتضمن هذا الفصل مناقشات واسعة للقضايا الشرعية التي نشأت نتيجة الاحتلال الاستعماري للبلدان الإسلامية ، مثل الولاء للحاكم غير المسلم ، والوضع الشرعي للأجانب المقيمين في الأراضي الإسلامية ، وقضية الهجرة من دار الحرب .
الفصل الثالث
يبحث نظرية الحرب والسلم في الإسلام . إذ سأناقش التصورات والنظريات الإسلامية المختلفة بصدد طبيعة العلاقة مع غير المسلمين على الصعيد الدولي . إذ أنه من الضروري دراسة آراء الفقهاء ، وبضمنهم المعاصرين ، فيما يتعلق بال ، طالما أن أغلب الكتابات والمؤلفات حول القانون الدولي الإسلامي ، أو التي تتطرق لنظرة الإسلام للعلاقات الدولية ، تعتبر ال محوراً أساسياً للنظرية الإسلامية في العلاقات الدولية . وعليه فإن هذه الدراسة لن تتطرق لتفاصيل وأحكام ال . فأحكام ال لا علاقة لها بهذه الدراسة . ومع ذلك فقد ناقشت دوافع ال باعتباره أحد قواعد القانون الدولي الإسلامي ، ومعرفة ما إذا كان السلم أم الحرب هو الأصل في العلاقة مع غير المسلمين أم لا .
أعتقد أن ال يحتل موقعاً منفصلاً في الشريعة الإسلامية ، وأن أحكام ال يجري تطبيقها عندما تنشب الحرب الفعلية . وأن ال يحتل فصلاً خاصاً في القانون الإسلامي وليس أصلاً في السياسة الخارجية أو العلاقات الخارجية للدولة الإسلامية . فكما أن القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة يتضمنان فصولاً ومقررات خاصة بالحرب وشؤون الحرب والجرحى والأسرى ، فلا يجري التطرق إليها إلا في حالة وقوع الحرب ، ولا يجري اتهام القانون الدولي بأنه عدواني لمجرد أنه يتضمن قوانين تنظم قضايا وشؤون الحروب ، كذلك موقع ال في الشريعة الإسلامية . فالإسلام نظام وتشريع متكامل ، للسلم والحرب . وكما توجد هناك أحكام لل والحرب ، هناك أحكام وقواعد تنظم السلم ، والتي
قلما يُتطرق إليها .
الفصل الرابع
يناقش المعاهدات السلمية مع الدول غير الإسلامية . إذ أن النظرة السائدة عن النظرية التقليدية في الإسلام فيما يتعلق بالعلاقات الخارجية بأنها تميل انية والتوسع ، وطالما أن الاعتقاد السائد بين الباحثين والأكاديميين بأن الإسلام لا يعرف المعاهدات السلمية مع غير المسلمين ، أو أنها إن وجدت ، فهي محدّدة بفترة مؤقتة، غالباً لا تتجاوز عشر سنوات ، لذلك سأناقش المعاهدات السلمية المبكرة في صدر الإسلام وما بعده . وكذلك موضوع الفترة المحدّدة بعشر سنوات ، وهل هي تشريع أم عرف أم رأي ؟.
وسأتابع ، في هذا الفصل أيضاً ، تطور المعاهدات السلمية بين أوربا والعالم الإسلامي . ويمكن إحراز ذلك من خلال مناقشة تأثير الامتيازات الأجنبية على القانون الإسلامي ، بصورة عامة ، والقانون الدولي الإسلامي بشكل خاص . منذ القرون الوسطى وحتى القرن العشرين ، كان نظام الامتيازات يمثل حضور الأنظمة القانونية الغربية في البلدان الإسلامية . فقد كان للامتيازات تأثير هام في قبول المفاهيم والقواعد القانونية الغربية في المجتمعات الإسلامية . وسيتركز النقاش حول القضايا التي نشأت من الامتيازات والتي لها علاقة بالقانون الدولي الإسلامي ، مثل الإعفاء الضريبي للأجانب غير المسلمين ، الامتيازات والحصانة القضائية للرعايا الأجانب مما جعل سلطة القاضي غير المسلم أعلى من سلطة الدولة الإسلامية التي يقيم فيها ، حماية الأقليات غير الإسلامية ، وترسيخ السلم مع الغرب .
ونتيجة لتطور القانون الدولي الإسلامي ، يساهم الفقهاء المعاصرون بطرح نظريات جديدة فيما يخص الوضعية الشرعية للدول غير الإسلامية .
الفصل الخامس
يناقش الآراء المتفاوتة بين الفقهاء تجاه التقسيم الثنائي للعالم ، أي دار الإسلام ودار الحرب ، والإجابة على السؤال : إلى أي قسم تنتمي الدول الغربية ؟
إستناداً إلى بعض الفقهاء ، تعتبر الدول غير الإسلامية دار عهد . وهذا ما يزيل عقبات كثيرة في بناء علاقات قوية مع هذه الدول ، ويسمح بتوسيع مساهمة العالم الإسلامي في النظام العالمي . وتؤدي هذه النظرة إلى موقف أكثر تسامحاً فيما يتعلق بإقامة الأقليات المسلمة المهاجرة في الغرب .
الفصل السادس
يناقش وجهة النظر الإسلامية تجاه الإتفاقيات الدولية ، وسياسة الدول الإسلامية بهذا الصدد . إن الدول الإسلامية أنشأت علاقات خارجية مع الدول غير الإسلامية في وقت مبكر ، وعقدت معها اتفاقيات عديدة . وتلزم هذه الاتفاقيات الدول الإسلامية باحترامها وتنفيذها ، ليس على أساس سياسي أو قانوني فحسب ، بل على أساس ديني أيضاً . وسنناقش القواعد القانونية في عقد المعاهدات الدولية ، حيث سيتم التطرق إلى مبان شرعية هامة ذات تأثير في القانون الدولي الإسلامي ، مثل المصلحة والعرف ، التي يعتمدها الفقه الإسلامي في قبول الاتفاقيات والالتزامات الدولية . وسيكون هذا الفصل مقدمة للفصل التالي الذي يعالج العلاقة بين الإسلام والأمم المتحدة .
الفصل السابع
يسلط الأضواء على النقاشات الفقهية الإسلامية التي تتعلق بانضمام الدول الإسلامية إلى الأمم المتحدة ، وقبول مبادئ ميثاقها . وتمثل هذه المرحلة الذروة التي بلغتها الدول الإسلامية في قبولها النظام الدولي ومنظماته ووكالاته . وسأناقش مبادئ ميثاق الأمم المتحدة وتأثيرها على الدول الإسلامية الحديثة وعلاقاتها الدولية; وهذه المبادئ هي : مبدأ التعايش السلمي ، مبدأ الحل السلمي للنزاعات الدولية ، مبدأ الامتناع عن استخدام القوة ، مبدأ السيادة ، مبدأ حق تقرير المصير ، مبدأ عدم التدخل بالشؤون الداخلية ، ومبدأ الاعتراف بالدول غير الإسلامية . وأحدثت هذه المبادئ جدلاً بين الفقهاء ، كما أدت إلى حضور حيّ للفقه الإسلامي في القضايا والمبادئ الدولية . إن مثل ذلك النمط من التفكير يبدو ضرورياً لتطوير القانون الدولي الإسلامي ، وإبداع قواعد فقهية عصرية تتعامل مع المشاكل والعلاقات والمبادئ الدولية .
الفصل الثامن
يناقش نظرة الإسلام للقضاء الدولي . إذ أن اللجوء إلى محكمة غير إسلامية هو ظاهرة جديدة في العالم الإسلامي ، وقد رفعت العديد من الدول الإسلامية قضاياها ونزاعاتها إلى محكمة العدل الدولية . وسأسلط الضوء على القواعد الشرعية التي جعلت الدول الإسلامية ترضى بقضاء محكمة غربية تطبق قانوناً غير إسلامي . وسأناقش ايضاً مبادئ وأسس تأسيس محكمة العدل الإسلامية الدولية ، وقضايا التحكيم وصفات القاضي والمحكم .
إن هدف هذه الدراسة هو تقييم ومتابعة تطور القانون الدولي الإسلامي من خلال علاقة العالم الإسلامي بالغرب . إذ سيقتصر البحث حول تأثير هذه العلاقة على القانون الدولي الإسلامي ، دون بقية العوامل الأخرى . منهجياً ، سأقوم أولاً بتحديد مبدأ أو مفهوم معين في القانون الدولي (الغربي) ، ثم معرفة كيف تم قبولها من قبل المسلمين ، وكيف اُدرجت ضمن القانون الدولي الإسلامي . إن تقييم قبول هذه المفاهيم سيتخذ منحيين : الأول : تاريخي ، لإلقاء الضوء على الظروف وطبيعة المحيط السياسي الذي خلق الأجواء لقبول هذه القواعد . الثاني : شرعي ، لمعرفة ما إذا كانت هذه المبادئ الجديدة مبنية على أحكام وقواعد الشريعة الإسلامية ومصادرها . وستتركز المناقشات ، فيما يتعلق بالمنحى الثاني ، على فتاوى الفقهاء وآراء العلماء والباحثين . ولغرض إحراز هذا الهدف ، سأستخدم المصادر التالية :
الفتاوى
الفتوى هي رأي فقهي بصدد موضوع معين في القانون الإسلامي . وهي الحكم الشرعي الكلي للأشياء . وقد تتعلق بمواضيع عديدة ، شرعية ، اجتماعية وسياسية ، مما يواجهه المسلمون في حياتهم اليومية . وتمثل الفتوى الرأي القانونيـ الديني للفقيه أو المفتي بصدد مسألة معينة .
وعلى مر القرون ، واجهت الفقهاء قضايا مستجدة في كل عصر ، كان من اللازم عليهم إعطاء حلول تنطبق مع قواعد الشريعة . وقد نجح بعض الفقهاء أحياناً في تطوير نظرات وحلول جديدة لمشاكل المجتمعات الإسلامية . وإذا كان الفقه الإسلامي يسير ببطء حتى القرن التاسع عشر ، إلا أن القرن العشرين حمل تحديات كثيرة وكبيرة للمسلمين ، جعلت الفقهاء يبذلون جهوداً لملاحقتها. وما زالت هناك قضايا وجوانب في شتى الميادين بحاجة إلى رأي الإسلام فيها . إذ ما زال العلم والتكنولوجيا والتقدم الصناعي والطبي يطرح أسئلة بحاجة إلى إجابة إسلامية رصينة ، تستطيع تكييف المجتمعات الإسلامية مع التغيرات المتسارعة التي يشهدها عالمنا اليوم .
ومن هذه القضايا موضوع العلاقة مع غير المسلمين ، فقد قدم بعض الفقهاء صياغات لقواعد إسلامية جديدة ، أزاحت النظريات التقليدية باتجاه وضعية ديناميكية للأطروحة الإسلامية . وكان لبعض الفتاوى تأثير عظيم في المجتمعات الإسلامية ، ولعبت أدواراً رئيسة في الأحداث التاريخية والسياسية . كما أحرز الفقهاء وبنجاح تقدماً ملحوظاً في قبول المبادئ الجديدة ، والمأخوذة أصلاً من المفاهيم الغربية ، فوضعوا بذلك الدول الإسلامية ، إلى حد ما ، في توافق وانسجام مع المتغيرات الدولية ، وإقامة علاقات دولية مع بقية دول العالم ، وبضمنها الدول غير الإسلامية .
وفي هذا الصدد حرصت على استقصاء آراء الفقهاء المعاصرين فيما يتعلق بقضايا القانون الدولي الإسلامي والعلاقات الدولية مع الدول غير الإسلامية والانضمام للمنظمات الدولية وغيرها من المواضيع التي تضمنتها هذه الدراسة . وقد أجاب بعضهم [1][1] مشكورين من خلال اجابات مختلفة على شكل فتاوى معاصرة ، قد تكون لأول مرة يتطرق فيها الفقه الإسلامي إلى هذه القضايا . لذلك فهي تتضمن جوانب إبداع وأصالة ومعاصرة ، بشكل يفتح الآفاق أمام الفقه الإسلامي للنمو والتطور فيما يتعلق بالقانون الدولي الإسلامي . ولا يسعني في هذه المناسبة إلا توجيه الشكر والامتنان لكل الفقهاء والعلماء والأجلاء ومنهم سماحة السيد محمد حسين فضل الله (مرجع ديني كبير) ، سماحة السيد كاظم الحائري (مجتهد في الحوزة العلمية في قم) ، سماحة الشيخ لطف الله الصافي (مرجع ديني كبير) ، وسماحة الشيخ محمد علي التسخيري (مستشار قائد الجمهورية الإسلامية الإيرانية للشؤون الدولية) [2][2] .
ومن الأمور المستجدة في هذه الفتاوى أنها ذكرت أن فكرة ال الابتدائي لم تعد قائمة بعد الآن ، طالما أن الدول الإسلامية وقعت معاهدات سلمية أو معاهدات عدم اعتداء مع الدول غير الإسلامية . كما أن الانضمام إلى ميثاق الأمم المتحدة بمثابة توقيع معاهدة سلمية مع الدول المنضمة إليها . وتضمنت هذه الفتاوى مفاهيم ونظرات متطورة تجاه الاتقافيات الدولية ، ومحكمة العدل الدولية ، بشكل تساهم فيه هذه الفتاوى بتطوير القانون الدولي الإسلامي
المعاهدات
المعاهدة هي اتفاق بين طرفين أو أكثر ، تتضمن التزامات متبادلة بينهم ، وتنظيم العلاقة بين أطرافها . وتمثل المعاهدات ، بصورة عامة ، الأهداف والمصالح التي يجب بلوغها وحمايتها بواسطة الاتفاق أو العهد أو الامتياز . وتعكس المعاهدات بوضوح طبيعة الأفكار السائدة والأنظمة السياسية للدول في فترة تاريخية معينة . فالمعاهدات تمثل وثائق هامة تجسد المبادئ والقواعد التي كانت تحكم العلاقات الدولية بين الأمم والحكومات . وما تزال الاتفاقيات تمثل مصدراً رئيساً في القواعد القانونية الدولية ، وتلعب دوراً هاماً في العلاقات الدولية .
وعبر عصور طويلة ، مارست الدول الإسلامية توقيع الاتفاقيات والمعاهدات مع الدول غير الإسلامية . وتضمنت تلك الاتفاقيات التزامات وقواعد وشروطاً ومبادئ عديدة ، بشكل تمثل تطوراً في القانون الدولي الإسلامي . ومن خلال التركيز على معاهدات معينة ، يمكن اعتبارها خطوات متقدمة في تطوير القانون الدولي الإسلامي ، وقبول مفاهيم جديدة ، بشكل يجعل الباحث يتصور طبيعة الظروف التاريخية التي جعلت تلك الدول توقّع هذه المعاهدة أو تلك .
من الصحيح القول أنه ليس كل الحكام المسلمين ، عبر التاريخ ، قاموا بتوقيع اتفاقيات ومعاهدات مع الدول غير الإسلامية دون الرجوع للمؤسسة الدينية او استشارة الفقهاء المعاصرين لهم ، ولكن يمكن القول ، إلى حد ما ، أن الدول الإسلامية وقعت تلك الاتفاقيات وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية ، وخاصة عند وجود مؤسسة دينية متطورة ، أو فقيه أو مفتي يعمل في البلاط الملكي; مثلما هو الحال في الدولتين العثمانية والصفوية .
القانون الدولي والقانون الدولي الإسلامي
يعرّف القانون الدولي بأنه مجموعة القواعد التي تعين حقوق الدول وواجباتها المختلفة في علاقاتها المتبادلة [3][1]، أو مجموعة القواعد القانونية الملزمة للدول والشخصيات القانونية الدولية الأخرى في علاقاتها المتبادلة [4][2] . فالموضوع الذي يتعامل به القانون الدولي يقع خارج الدولة وليس في أنظمتها الداخلية . فهو ينصبّ على حقوق الدول وعلاقاتها مع بعضها . وقد أضيف إليه بعض الأفراد الذين يمثلون شخصيات دولية كالأمين العام للأمم المتحدة .
وتعود جذور القواعد الدولية إلى عصور سحيقة في التاريخ . فرغم عدم وجود علاقات وثيقة بين الوحدات الدولية والشعوب المتجاورة لكن الحاجة كانت تقتضي تنظيم بعض القضايا أو العلاقات المتبادلة في ظروف محدودة . فغالباً ما تنشأ حروب بينها ، وتنتهي بانتصار إحداها ، فيجتمع الفريقان لتنظيم قضايا تبادل الأسرى أو دفع الجزية أو الإتفاق على إنهاء حالة العداء بينهما ، أو المرور في أراضي الدولة الأخرى . وقد حفلت المصادر التاريخية باتفاقيات دولية في عهود الفراعنة والسومريين والآشوريين والبابليين واليونان والرومان والهند والصين وغيرهم . وشهدت روما والمدن والأقاليم المجاورة لها معاهدات صداقة تنص على احترام السفراء والمبعوثين ، وعلى التحكيم عند نشوء نزاع . ومنها نشأت بعض قواعد العرف الدولي ، وبتكرارها صارت قواعد قانونية دولية .
وبسبب النظرة الاستعلائية للرومان واليونان ، حيث أنها تعتبر نفسها شعوباً ممتازة ، وتعتبر الشعوب الأخرى همجية يجوز استعبادها بالقوة ، نشأت فكرة التمييز العنصري بين الدول; حيث امتازت تشريعات القانون الروماني بالكثير من المساواة بين أفراد الشعب الروماني ، في حين اختلفت تلك التشريعات عن التي وضعت لحكم شعوب الدول التابعة لروما أو ما كان يطلق عليهم البرابرة . وعندما يقع خلاف بين هذه الدويلات التابعة كانت روما هي التي تفصل فيه ، فنشأت بذلك فكرة وجود دولة كبرى لها صفة الرئاسة العليا بين الدول . وظلت هذه الرئاسة لأباطرة الرومان في عهد الدولة الرومانية الغربية (اللاتينية) . وبعد سقوطها عام 476 م انتقلت إلى الامبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية) . ومن بعدها للامبراطورية الجرمانية التي نشأت عندما قام البابا ليو الثالث بتتويج شارلمان في روما عام 800 م . فلما ضعفت هذه انتقلت سلطة الرئاسة للبابا ، فجمع في يديه سلطة الرئاسة الدينية ، التي كانت له على جميع أنحاء العالم المسيحي ، وسلطة الرئاسة الدنيوية على أمراء وملوك الدول المسيحية .
تأثير المسيحية على القانون الدولي
في العصور الوسطى بات من الضروري قيام البابا بتتويج الملك ومنحه بركته ، وأخذت المجالس الكنسية تضع القواعد الدولية وتعمل على إيجاد أسرة دولية تجمع بين دول أوربا الغربية تحت السلطة العليا للبابا . ومن القواعد التي وضعتها (صلح الإله) و (هدنة الرب) التي تنظم الصلح والهدنة بين الدول المسيحية المتحاربة . ووضعت قاعدة (هدنة الرب) في القرن الحادي عشر، ومفادها : أنه لا يحل لمسيحي أن يحارب مسيحياً آخر من غروب شمس الأربعاء حتى مطلع يوم الإثنين ، وشمل التحريم أيام الأعياد . وهي تشابة الأشهر الحرم في الشريعة الإسلامية ، وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم لتأمين انتقال الحجاج من وإلى مكة المكرمة ، ورابع (رجب) يتوسط باقي أشهر العام .
وكثرت المؤتمرات الدينية والدولية التي يدعو إليها البابا ويحضرها الأمراء والملوك من دول أوربا المسيحية . وكان للحروب الصليبية دور رئيس في تشكيل الهوية الأوربية للشعوب المسيحية في أوربا . فقد كانت عاملاً هاماً في تكتل وتماسك الدول الأوربية بهدف تعبئة الناس للمشاركة في الأهداف المعلنة للحروب وهي (تخليص الأراضي المقدسة من أيدي الوثنيين وتحرير الصليب) . فلأول مرة تجتمع القارة الأوربية متخلصة من حواجز التباين والصراعات بين القبائل والشعوب والأجناس المتنوعة (فرنج وسكسون وجرمان ونورمانديين ولومبارديين وصقليين وبورغنديين) ، فعزز ذلك الجهد المشترك في الحروب ، عزز المفهوم السياسي والديني للعالم المسيحي ، والذي خلق بدوره المفهوم الثقافي لأوربا . وعندما حض البابا أوريان الثاني في خطابه الشهير الذي ألقاه في كليرمون (فرنسا) في تشرين الثاني 1095 المسيحيين على شنّ حرب على (الجنس الشرير) الذي كان يمتلك الأرض المقدسة ، إنما كان يعلن ميثاق المدنية الغربية [6][1] ، وقد أثر تماس المسيحيين مع المسلمين طوال قرنين من الحروب الصليبية على نمط المبادئ والأعراف التي اعتمدها الأوربيون فيما بعد . فقد كان للقواعد الشرعية الإسلامية كقواعد الحرب والسلم والهدنة والصلح وغيرها تأثير في القانون الدولي الأوربي ، فعندما عاد الملوك وأمراء الإقطاع إلى أوربا نقلوا معهم بعض النظم السياسية والإدارية ، فمثلاً كانت الدول الأوربية على شكل إقطاعيات كثيرة ، لكل جيشه وضرائبه وعلاقاته الداخلية والخارجية ، ورأوا أن الإسلام أرسى قواعد الدولة المركزية حيث يرأسها شخص واحد ، يقوم بتعيين وعزل الولاة على الأقاليم . فبدأ ملوك فرنسا بالقضاء على نظام الإقطاع ووحدوا دولهم ، وتبعهم ملوك إيطاليا وألمانيا . فأدى ذلك إلى ظهور دول في أوربا متحدة يستطيع رؤساؤها التحدث باسمها ، والارتباط مع الدول الأخرى بعلاقات دولية عامة ثابتة .